"اللغة حضارة" هذا هو المصطلح الذي اتفق عليه علماء اللغة واللسانيات وفقهاؤهما، وأنها جسم متطور، لم يكن ميتاً، وخاصة للغات الحية، والعربية، كما هو مترسخ في أذهان الناطقين بها والباحثين في أسسها وقواعدها واشتقاقاتها حارسها القرآن الكريم يحميها من الاندثار والزوال، كما حدث للغات سامية، وأفريقية وآسيوية، وغيرها، وحين نحاول وصل هذه اللغة بالمنجز الحضاري المعاصر فإن مجامعها اللغوية والباحثين بها، وكل ما أثير من جدل حول تطويرها، وقفوا على مسلّمات فقهاء الماضي ومحاولة إدخال بعض الكلمات والمصطلحات، لكن اللغات الأخرى التي فرضت إنتاجها العلمي، والفلسفي والمعرفي، صارت هي من يجسد ثقافة علومها ولغاتها، وحين نحاول أن نتكلم عن الجسد الحضاري للغة ومؤثراتها، وبنائها العلمي، فإننا لا نريد أن ننجرّ الى التقعيد والتصريفات والدخيل والمكتسب، وإن كانت هذه مهمات لابد أن تمثل دور التطوير حتى فيما يتصل بتلك المعارف واشتقاقاتها، لكننا أمام معضلة البحث العلمي لا نجد من يستطيع البحث والتحليل لظاهرة ما، أو الغوص في علوم الطب، والفيزياء، والفضاء، وعلوم الطبيعة المختلفة، كذلك لا نستطيع أن نرى باحثاً عربياً يتقدم بمشروعه بلغته الأصلية وحتى لو فضّل ذلك، فإن بحثه لن يجد من يقرأه، ويقوّمه ويفاضله مع بحث آخر، يراه مجدياً، او مكروراً، لأن مراكز البحث في هذه الاختصاصات الدقيقة او الشائعة، تُكتب ويفاضَل بينها وبين غيرها في لغات تملك أدوات البحث والتحليل والتحكيم والنشر وهذا ما تفتقده كل الدول العربية، ولذلك جاء الهروب لتلك المراكز المتقدمة، لأنها القادرة على إيجاد المصادر والمكتبات، والمعامل، وفي حال نجاح ابتكار او اختراع ملائم للسوق أياًكان نوعه، فإنه سريعاً ما ينتقل من المعمل الى المصنع، ويدخل في عالم التطوير وصيانة الحقوق، وبالتالي فاللغة العربية لم تعد المحتوى القادر على الابتكار والتطوير وتطويع علوم العصر الى مبتكراتها اللغوية، وتوليدها، وجعلها متناسقة مع لغات العالم المتطورة. هذا العجز لا تستطيع أن تحمله دولة او طائفة، او فئة معينة، طالما القصور هوجزء من فوضى ثقافية واجتماعية، وسياسية ليس لديها المشروع الحضاري الذي يجعل بناءها خلاقاً ومواكباً للعالم المتقدم، والذي يتسابق على الاكتشاف والابتكار، وفتح الفجوات مع العالم المتأخر. صحيح أن لدينا بعض النجاحات في الآداب، وقليلاً جداً من الدراسات السياسية والاجتماعية لكننا في ميادين العلوم والمعارف وتطبيقاتهما مجرد مستهلكين وأصداء لما يُكتب او يطبق، وهنا الإشكال بخطورة موت اللغة ودليلنا أن آخر الابتكارات في علوم الحواسيب التي أصبحت مراكز المعرفة، ومصطلحاتها والعديد من كلماتها تنتقل الى اللغة العربية بمركبها العلمي الإنجليزي تحديداً، وهنا لابد من إدراك ان هذه الأمة سوف تبقى كياناً بلا حضارة اذا ما تدهورت أسسها اللغوية، وبقيت عالة على غيرها، ومواقع تهجير لطاقاتها البشرية من علماء وباحثين وخلاّقين في ميادين لا تتسع لها أرضهم ولا فضاؤهم القومي والوطني..