حين تجبرك الظروف لتتواجد في مكان صغير مع مجموعة من الغرباء، فإنك قد تتصرف بطريقة مختلفة عن ما تعودت عليه، قد تحاول أن تتحدث همسا مع مرافقيك، تحاسب على تصرفاتك وحركاتك، هذا إذا كنت من الأشخاص الذين يملكون الوعي والإحساس بالآخرين والمعرفة بقواعد التعامل في الأماكن العامة. أما إذا كنت من الأشخاص المسرحيين الذين يحبون أن يكونوا محط الانظار حتى لو كانت العيون تطالعهم وتحمد الله على نعمة العقل وحسن الأخلاق، فإن إحساسك بالآخرين يكون غير موجود أو مختفياً فأنت تحسبهم فقط جمهوراً يصفق أو يتفرج، وبيني وبينكم هذه الشخصيات المسرحية هي التي تسلينا نحن المشغلين بالملل والانتظار في الأماكن العامة. في رحلة شبه طويلة من قارة لأخرى، تمركز الركاب في أماكنهم في الطائرة، هذه تربط الحزام لابنتها الصغيرة والآخر يضع الحقائب في مكانها المخصص، وصغيران يحاول كل منهما أن يجلس جنب النافذة. جاءت فتاة في مطلع العشرينات كي تجلس في مكانها، صدف أن المقعد الذي بجانبها يشغله شاب صغير مظهره مثل كل الشباب في أنحاء العالم المختلفة من حيث نوعية الملابس و تسريحة الشعر، طلبت الفتاة بهدوء نقلها لمقعد بجانب سيدة أخرى وهذا طلب منطقي، حيث تم تدبير مكان آخر للفتاة. نسيت أن أخبركم أن نظرات الركاب كانت تطالع الشاب منذ دخوله الطائرة بارتياب ويمكنك أن تسمع الهمسات والأحاديث عن شكله وطريقة لبسه والتعليقات من البعض عن طيش الشباب ومظهرهم في هذه الأيام، رغم أن الشاب لم تبدر منه أي تصرفات مريبة بل كان مثله مثل أي مسافر عادي، أيضا الفتاة نالت نصيبها من نظرات الشك والريبة! من ركاب الرحلة شلة رجال تبدو عليهم علامات النضج والرزانة بحكم العمر وكما يخبرنا الشيب الذي يطل في الشعيرات المتبقية على رؤوسهم! ومنذ أن أطفئت إشارة ربط الأحزمة، كان هؤلاء في حركة دائمة في محاولة للفت نظر الفتاة، يرفعون صوتهم بالحديث بطريقة سمجة وهم يتكلمون عن وجهتهم وأماكن سكنهم، وتصرفات كثيرة لا يجرؤ عليها مراهق أخرق. الشاب الذي رمقه الجميع بنظرات الاتهام لمجرد أن شكله "شبابي" كان في غاية الأدب والاحترام قضى وقته بين قراءة كتاب يحمله وتصفح مجلات ومشاهدة الأفلام المعروضة أما طوال الشوارب المحترمون كانوا كأنهم أفراد في سيرك متنقل لمجرد رؤيتهم فتاة صغيرة في سن بناتهم! اصحاب العقول في راحة! أما المظاهر فإنها خادعة!