شدد الأمير الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عياف آل مقرن أمين منطقة الرياض على أنه لا يمكن ترك ميزان العرض والطلب في المساكن للأفراد، ولا يمكن الطلب من كل مواطن راغب في السكن أن يكون مليونيرا. وقال ابن عياف في كلمة خلال افتتاح فعاليات أحد المؤتمرات التي خصصت للمساكن العام الفائت، أن "مسكن لكل مواطن" عنوان مشوق ومحبب للجميع وأنا شخصيا منهم، لكن كمسؤول في القطاع البلدي فعندما يذكر الشق الأول من الاسم (مسكن لكل مواطن)، فهو يعكس ويمثل لنا أن كل مواطن سيراجع البلدية لأكثر من مرة عند شراء الأرض وعند البدء في البناء وأثناء البناء وعند الانتهاء، ويعني ذلك مضاعفة الأعباء على الجهة المعنية بالخدمات وعلى المواطن نفسه وإهدارا للجهد والطاقات. والحقيقة أن أحد المفاهيم العمرانية المقلقة للبلديات والمكلفة ماديا وإداريا على الدولة وعلى المواطن، هو ما يُعرف بالتطوير العمراني الإفرادي، والذي يمثل أكثر من 90في المائة بينما يتضاءل التطوير المؤسساتي الشامل إلى حدود 3في المائة، وذلك حين يتولى المواطنون كأفراد مسؤولية بناء مساكنهم مباشرة، مع ما يتضمنه ذلك من خوض المواطن تجربة شراء الأرض، وتجربة التصاميم المعمارية، واختيار مواد البناء، والدخول في خطوات ماراثونية مع المقاولين الذين هم في العادة بمستويات ونوعيات متدنية تنقصها الكفاءة والمعرفة والخبرة، وينتهي الوضع إلى مبان بجودة متواضعة وأحياء متناثرة يتم التطوير فيها بصفة انتقائية، فقد تكتمل بعض المباني ولا نجد المدارس، وقد تجد الشوارع ولا تجد الخدمات التحتية.. وهكذا، وتستمر معضلة التطوير في الحي تتقاذفها الجهات المختلفة وحسب أولوياتها من مياه وكهرباء إلى صرف صحي إلى سفلتة إلى إنارة إلى حدائق ومعها المساجد والمستوصفات والمدارس، يزيد من إشكالاتها أنشطة القطاع الخاص، فسكان الحي لا يعلمون ماذا سيحل بهم من الأراضي الفضاء على الشوارع الرئيسية، فما بين بنك ينقل معه الحركة المرورية ويؤزم المواقف إلى مستوصف خاص قد يخدم المدينة كلها، إلى محطة بنزين تبدأ صغيرة وتنتهي إلى مجمع للخدمات، وهكذا. هذا العرض السريع لواقع تطور الأحياء السكنية هو مؤشر أقل ما يمكن القول عنه إنه غير مناسب، وإن كان قد مر عليه زمن واعتاد الناس عليه، إلا أن المستقبل والتطور يفرض علينا الاتجاه إلى بديل آخر أفضل وأيسر وهو بديل التطوير الشامل باعتباره الركيزة الأساسية للتطوير الإسكاني الذي لا يمكن أن يكون ويتطور إلا بوجود مساكن عالية الجودة في أحياء شاملة التطوير، لتشكل تلك المنازل المتعاظمة القيمة بمرور الزمن قاعدة صلبة للتمويل الإسكاني طويل المدى يصل في بعض الدول إلى أكثر من 25سنة. التطوير الشامل له مستحقات كثيرة وله إيجابيات أكثر، فمن الإيجابيات ما يخص الدولة، حيث يتم تنظيم الخدمات والمرافق، تضمن معه الدولة أحياء مطورة وفق مفهوم التطوير الشامل بما يجعلها أحياء نموذجية تتعاظم قيمتها بمرور الزمن ويحقق المطورون مشاريعهم التطويرية وأهدافهم الربحية، وينال المواطن السكن الملائم عالي الجودة في حي صحي متكامل الخدمات في ظل ما تشير إليه بعض التقديرات من أن نحو 55في المائة من المواطنين يملكون منازل خاصة، وبالمحصلة النهائية يحصل الوطن على قاعدة اقتصادية صلبة باعتبار تلك المساكن أصولا متنامية القيمة تشكل قاعدة كبيرة لنقل الرساميل بين القطاعات الاقتصادية كافة وبين أصحاب المدخرات ومجتمع الأعمال بما ينعكس إيجابا على النشاط الاقتصادي بشكل عام. كذلك فإن من المستحقات للتطوير الشامل: التمويل، لأن المطور لا يمكن أن يدخل في تجربة تحتاج إلى رأسمال كبير لا يضمن فيه البيع للكثير من الوحدات السكنية ما لم يكن هناك تمويل للمطور وكذلك تمويل للمواطن المشتري، بما يُمكّنه من دفع قيمة البناء على أقساط شهرية وسنوية، ومثل هذه الأقساط تساعد كل المواطنين بمختلف شرائحهم على تملك مسكن يتناسب مع دخله وبمستوى عالي الجودة، أضف إلى ذلك ما يعنيه تمليك المسكن للمواطن من استقرار اجتماعي واقتصادي ووظيفي. ويسهم التطوير الشامل في تمكين المواطن من شراء مسكن من دون دفع مبالغ عالية كقيمة الأرض، حيث عادة يكون التطوير على أراض خام ذات أسعار رخيصة نسبيا تتم استفادة المطور من تطويره لها دون دخول سماسرة يتداولون الأرض ويتم بناء على ذلك نقل الأرض مباشرة من خام إلى المواطن، بينما في التطوير الإفرادي يكون سعر الأرض عاليا، حيث يتم تداول الأرض قبل بدء البناء مما يرفع سعرها. إن البلديات لا تتحدث من فراغ، فقد بدأت الأمانة ترصد الظاهرة وتعرفت على الحاجة إلى المساكن وازدياد الطلب عليها بسبب زيادة معدل النمو السكاني، وللأسف نقول إن المجتمع لا يعتمد على مؤسسات قائمة لموازنة العرض والطلب على المساكن، بل إن الأمر متروك لاجتهادات فردية لا تبدأ في بناء المساكن حتى تشعر بالأزمة الخانقة وارتفاع الطلب الشديد فتبدأ بالاستجابة التي عادة ما تكون استجابة بجهود فردية وبمستويات متواضعة، وهكذا، بينما التطوير الشامل يمكن المجتمع من مجابهة وموازنة العرض والطلب وتضمن معه الدولة وجود جهات تقدم العرض اللازم وبالمستوى المطلوب أضف إلى ذلك دور التمويل في استكمال الدورة الاقتصادية على المستوى العام. على العموم فإن تجربة الأمانة في هذا المجال وإن كانت حديثة جدا، حيث توقعت الأمانة أن هذه المهمة هي من مسؤوليات جهات أخرى مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان والتي تم إلغاؤها، أو من اختصاصات صندوق التنمية العقارية أو من وزارة التخطيط أو غيرها من الجهات ذات العلاقة، إلا أن الأمانة في الرياض اختارت أن تبدأ المبادرة في تشجيع وتحفيز المطورين على تبني نظام التطوير الشامل.. وأؤكد لكم أن البوادر جيدة، إلا أنها تحتاج إلى استدعاء للتجارب العالمية والنظر في الآليات المستخدمة وإلى مراقبة وتطوير دائمين، حيث استطاعت الأمانة، بالتعاون مع القطاع الخاص بتحفيزه. البدء في تجربة التطوير الشامل عبر التأكد من وصول جميع الخدمات الأساسية للأحياء السكنية وهذا ما يتحقق بوضوح في المشاريع الإسكانية شاملة التطوير التي تحفز الجهات التمويلية لتمويل المواطنين. وتسعى الأمانة من خلال الشراكة مع شركات التطوير العقاري عموما والإسكاني بشكل خاص إلى رفع جودة تلك المنتجات العقارية لتصبح ذات عمر افتراضي أكبر بما يجعلها قاعدة صلبة لتطبيق أكثر الأنظمة فاعلية في التمويل العقاري والإسكاني كنظام الرهن العقاري وأنظمة المرابحة وعقود الإيجار المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية التي في حال تطبيقها ستدفع بالقطاع العقاري إلى الأمام خطوات كبيرة ثابتة بما يؤصل لحياة اجتماعية أفضل ونهضة اقتصادية أكبر وبيئة صحية أنقى. من مراجعتنا للوضع ومعايشة البلديات شبه اليومية له اتضح أنه لا يمكن ترك ميزان العرض والطلب في المساكن للأفراد، ولا يمكن الطلب من كل مواطن راغب للسكن أن يكون مليونيرا يدفع قيمة الأرض مقدما ويدفع تكاليف البناء كاملة أثناء البناء، ولا يمكن كذلك ترك نوعية المساكن إلى اجتهادات وخبرات فردية تخوض التجربة لأول مرة، ولا يمكن أيضا للبلديات الاستمرار في ملاحقة الأحياء وتطويرها وتزويدها بالخدمات الأساسية بعد بنائها. أخيرا وبالنظر لما قدمته وتقدمه الدولة من دعم للمواطنين في مساكنهم من خلال منح الأراضي ومن خلال برنامج صندوق التنمية العقارية مقرونا كذلك بمعرفتنا بالهرم السكاني للمملكة، وما يمثل أعداد الشباب وصغار السن من نسبة كبيرة في المجتمع فإن الحاجة أصبحت ضرورية لمراجعة وضع الإسكان في المملكة بكل عناصره ويبرز التطوير الشامل كأحد حلقات الحل لكثير من المشكلات وهو أي التطوير الشامل بمثابة المستقبل للإسكان، ومن مستحقاته الأساسية التمويل كنقطة انطلاق وتدشين من خلالها يتحقق "مسكن لكل مواطن"، مع ضرورة مراعاة عدم اقتصار برنامج التمويل على حماية المقرض والممول بل يشمل حماية حقوق المواطن المقترض، وذلك بضمان حصوله على مسكن ذي جودة عالية تتزايد قيمته مع الوقت، مع الأخذ بعين الاعتبار تقليل التكاليف المتوقعة للتشغيل والصيانة، وبهذا يصبح حلم "مسكن لكل مواطن" حقيقة.