المجتمع السعودي يعيش حالة من الفورة الفكرية والاجتماعية ويعود ذلك إلى طبيعته الشابة. أفكار الشباب هي من ستشكل مستقبلنا. لهذا يبدو أن الصراع والتنافس على أفكار هذه الأجيال الصاعدة طبيعي. من الممتع أن تتشارك أفكارك مع أكبر عدد من الناس، ولكن من غير الممتع هو وجود قوى فكرية تعتقد ان بإمكانها السيطرة والاخضاع وفرض الآراء على الآخرين وإسكات الأصوات المختلفة. ولكن الخبر السيئ بالنسبة لهم هو أنه من غير الممكن أن يقوموا بذلك أبداً. قبل سنوات قليلة كان بإمكانهم فعل ذلك أما الآن فلا. الأسباب لذلك متعددة. السعودية خطت خلال السنوات القليلة الماضية خطوات واسعة نحو وضع أكثر حرية ومكاشفة على مستويات متعددة. الصحافة السعودية أصبحت تتمتع الآن بسقف أعلى وباتت تحتضن الآراء المتعارضة. التقنية مثلت دفعة كبيرة لكشف التنوع داخل مجتمعنا ومنح الفرصة للكثيرين للتعبير عن آرائهم المختلفة. الشاب الذي يسكن القريات أو الباحة أو بقيق أو الأفلاج ويحمل آراء مختلفة كان عليه قبل وجود الانترنت ان يبقي آراءه التي يؤمن بها بداخله لأنه عاجز عن قولها في البيت أو المدرسة، ولهذا كنا نظهر وكأننا مجتمع متطابق. ولكنه الآن قادر على التعبير بصراحة عن أفكاره التي يجد من يشاركها به في مناطق مختلفة من السعودية. هذا يعني ان تطابقنا في السابق كان مزيفاً ولكننا في الحقيقة مجتمع متنوع ومتعدد وهذه ميزة المجتمعات الحية. الأجيال الشبابية الصاعدة من وسط العالم التكنولوجي ستنشأ في بيئة أقل حذراً من الآراء المختلفة، وهي ربما أقل ميلاً للخضوع من الأجيال السابقة. عندما كنا صغاراً نشأنا في بيئة مخيفة وصارمة وعليك طوال الوقت أن تدعي أنك شخص آخر. وهذا السبب ربما الذي يجعلنا نظهر الآن بشخصيات خائفة ومزيفة ومسحوقة وتعيش بوجوه متعددة. لم يعد من الممكن للصحافة أن تتراجع عن تطورها من ناحية مهنية، وهي أيضاً مرتبطة مع تطور المجتمع الذي لم تعد تلائمه صحافة لا تعكس مرحلته الجديدة. ليس من المعقول إسكات الآراء المتنوعة التي يطلقها الناس عبر مواقع الانترنت أو الفضائيات. كما أن الأجيال السعودية القادمة ستكون أكثر استقلالية وشجاعة من الأجيال السابقة. ولكن الأهم من كل ذلك بأنه ليس بإمكان الذي يريدون أن يلغوا كل ذلك ويسكتوا الآراء التي لا تلائمهم أن يتحدوا مسار التاريخ. غالبية الدول في العالم تسلك الآن مساراً تاريخياً متشابهاً يدعم حرية التعبير والنقد والتحديث لأن ذلك يهدف إلى إصلاحها ودفعها للأمام. هذه المجموعات والقوى الفكرية التي تريد أن تلغي كل هذا ليس من أجل بديل أفضل ولكن من أجل تكرار نموذجها القديم لسنوات طويلة استطاعت أن تفرض هيمنتها على المجتمع ولم نكن نسمع إلا صوتها، وهي التي تشكل طرق تفكيرنا وعواطفنا وعاداتنا الاجتماعية وعلاقتنا مع العالم. ولكن النتائج كانت كارثية. تم تدميرنا على مستوى عقلي وعاطفي وأخلاقي وحتى جسدي. أصبحنا نفتقر إلى الحكمة والمنطق في رؤيتنا لأنفسنا وللعالم الذي تحول كله إلى عدو لنا. أي مجتمع يعيش في عزلة ويعتقد انه الأفضل وأن الآخرين يكرهونه ويريدون تدميره سيصبح مصاباً بالهوس والارتياب وسيتأذى عاطفياً. تزعزعت الثقة بداخلنا عندما تم ضرب العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة في السعودية، التي كانت طبيعية ورائعة لسنوات طويلة، لتصبح علاقة مشبوهة ومليئة بالأفكار المريضة. العلاقة الطيبة السابقة بين الرجال والنساء حتى الأغراب عن بعضهم أصبحت غير موجودة بين الأخ واخواته والزوج وزوجته والأب وبناته. تم سحق وإلغاء جميع الآراء المختلفة، وهذا دفعنا لنكون مزيفين ومتناسخين. جزء من الدفء الذي تمثله العائلة يعود للراحة التي تشعر بها بسبب قدرتك عن التعبير بحرية عن آرائك، ولكن مع تحول العائلة لدينا بسبب تعصبها لرأي واحد إلى عائلة قامعة وصارمة تلاشى كل ذلك الدفء ليتحول التواصل العائلي إلى واجب ثقيل على القلب. كل ذلك انتهى بأكبر نتيجة كارثية توصلنا لها وهي مشكلة الإرهاب التي تورط فيها الكثير من أبنائنا وتأذى منها بلدنا. بسبب خليط مشترك من الأسباب السابقة بالاضافة إلى كل مفاهيم الكراهية والتعصب ضد جميع المختلفين معنا، والتي تم حقنها في عقولنا. من المؤسف حقاً أن يتم كل ذلك التدمير الأخلاقي والعاطفي والعقلي والجسدي بحجة الدفاع عن التدين وهم يستخدمون هذه الحجة حتى يتم إسكات الآراء المعترضة. التدين شيء رائع وهو لا يتعارض مع كوننا محبين ومتسامحين وعقلانيين وخالين من الشكوك. ولكن الحقيقة أن الكراهية والشك والأفكار المرتابة السطحية والقتل هي التي تتعارض مع التدين. ومع كل هذه الأحداث الكارثية التي جلبوها فإنه من غير الصحيح أن نطلب منهم أن يسكتوا - باستثناء الاراء التي تؤدي إلى العنف والقتل - فمن حقهم أن يتحدثوا مثل البقية ويعبروا عن آرائهم ولكن لن يمكنهم إغلاق أفواه الآخرين. هذه هي ظروف المرحلة الجديدة التي يشكلها المجتمع نفسه. هذه المقالة مثلاً ستتعرض للشتم والنقد والمدح. هذا أمر يعكس القاعدة الجديدة في المجتمع متنوع الآراء والتي تقول: "شارك برأيك ولكن لن تستطيع أن تفرضه على الآخرين". انتهت الأيام التي نبتسم ونهز فيها رؤوسنا للآراء التي نبصق عليها في داخلنا.