نشرت جريدة "دي تزايت" الألمانية مقالا لي الأسبوع الماضي بعنوان "كيف يمكن أن تغير رئاسة أوباما الشرق الأوسط" ضمن سلسلة أطلقت عليها الجريدة ظاهرة "أوبامانيا العالمية"، وقد كنت اعتزم ترجمته للقراء في مقال هذا اليوم غير أنني أدركت بأن ما كتبته رغم اعتقادي بصلاحيته قد لا يكون مناسباً لاسيما بعد تغير المناخ العام ضد أوباما في الشرق الأوسط على اثر خطبته التي ألقاها في مقر "إيباك" -أهم مؤسسات اللوبي الإسرائيلي-، والتي تعهد فيها "بالقدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل". بإمكانك أن تلمس بوضوح موقفين متعارضين تجاه أوباما قبل وبعد الخطبة، ورغم أن آراء أوباما هي نفسها لم تتغير إلا أن المتابعين لأوباما في العالم العربي انزعجوا من تصريحات المرشح الرئاسي الذي اعتقدوا بأنه مختلف عن من سواه من المرشحين حيال هذه القضية، وعلى وقع هذا الاستياء ذهب البعض إلى أننا في العالم العربي خدعنا بظاهرة أوباما، وأننا بالغنا في تقديرها والحفاوة بها رغم أنها لا تختلف في قليل أو كثير عن مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الخمسين عاما الأخيرة. هل خدعنا حقا بظاهرة أوباما؟ في الحقيقة، لا أعتقد ذلك. الإعجاب بأوباما - أو قل الحفاوة بحملته - هو في الحقيقة ليس إعجاباً بشخص، بل بظاهرة سياسية فريدة من نوعها، ومتميزة بجميع المقاييس، ولا تحدث إلا في أمريكا. الذين أعجبوا بظاهرة أوباما - والذين سيعجبون بها مستقبلاً - ليسوا كلهم بسطاء، أو متحمسين لأصوله الإسلامية والأفريقية، أو واهمين ليعتقدوا بأنه سيغير من مبادئ السياسة الخارجية لأمريكا إرضاء للعرب، بل لأنها ظاهرة تمتلك كل مقومات الجاذبية السياسية بدءا من الكاريزما الباهرة لمرشحها الرئاسي، مرورا بقصة صعودها الميلودرامية ضد كل التوقعات، وانتهاء بلغة التغيير والتجديد التي تعد بها، والأثر الواضح للجيل الشاب فيها. أوباما ظاهرة سياسية غير اعتيادية، ولكنها في الأخير تجربة إنسانية ستخضع لقانون الفشل والإخفاق بقدر ما ستنجح وتزدهر. وما ينبغي أن نهتم به ليس فقط مدى ملاءمتها لواحدة من قضايا المنطقة العديدة، بل مدى أهميتها في الداخل الأمريكي أولاً، ثم ما يمكن أن تعكسه من سياسة عامة في العالم. الذين يعتقدون أن الاهتمام بهذه الظاهرة وهم، إنما يعبرون في الحقيقة عن عقلية الماضي، التي تبالغ في تقدير قضايا المنطقة، والتي تصر على أن كل من ليس على ذات الرأي من دول العالم، أو قياداته السياسة إما أعداء، أو شخصيات غير جديرة بالاهتمام. خذ على سبيل المثال كلمة أوباما أمام "إيباك"، هل تجد فيها رأياً شاذاً عن ما ردده رؤساء الولاياتالمتحدة منذ ترومان في الخمسينات تجاه التعهد بأمن إسرائيل، لا أعتقد ذلك. أما حديثه عن "القدس" فهو رأي - بالمناسبة - لا يعني إلغاء حق الفلسطينيين بالكامل، ففي إسرائيل تعني عبارة "القدس الموحدة" عند التيار السياسي العام المؤيد لعملية السلام: "القدسالغربية" بما في ذلك المستوطنات الرئيسية. طبعاً، غني عن القول أن تفسير التيارات اليهودية المتطرفة غير ذلك. ما ينساه الذي يستعجلون الحكم على أوباما أنه ما زال متعهداً بذات الوعود التي قدمها الرئيس بوش بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة - وهو بالمناسبة أول رئيس يقدم وعداً كهذا -، ولم يقدم أي من المرشحين الرئاسيين الآخرين أي تعهد بهذا الخصوص، بل إن أوباما كرر في أكثر من خطاب على ضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية متصلة وقابلة للحياة، وهو التزام بنظري يفوق أهمية عاصمة إسرائيلية موحدة لا تشمل الأحياء العربية. ولعلي ألفت انتباه القارئ، إلى أن أوباما كان ومازال مقرباً من تيار السلام في إسرائيل، وخلال عام 2000كان من المؤيدين لكامب ديفيد الثانية، وقد انتقد في أكثر من مناسبة إدارة الرئيس بوش على تخليها عن دعم مسيرة السلام. أما فيما يخص إشارته إلى "القدس عاصمة موحدة لإسرائيل"، فقد علق في ذات اليوم بأنه لا يقصد الأحياء الشرقية منها، بل أضاف بشكل واثق بأنه على استعداد أن يقبل خطة توافقية حول القدس واللاجئين على غرار مقترحات كلينتون الشهيرة التي طرحت فكرة عاصمتين شرقية وغربية لكل طرف، وعودة رمزية للاجئين. حتى وإن كانت آراء أوباما غير مرضية للكثيرين بهذا الخصوص، من قال إن القضية الفلسطينية وحدها هي التي يجب أن تحدد سياستنا من الرئيس الأمريكي القادم، فهناك قضايا لا تقل أهمية عنها مثل الأزمة الإنسانية في دارفور، وأزمة اللاجئين العراقيين، ومشكلة المجاعة ونقص المناعة المكتسبة في دول إسلامية أفريقية، وأمن الخليج، والتعهد بالحيلولة دون حصول إيران على أسلحة الدمار الشامل، والقضاء على القاعدة في أفغانستان، فكل هذه القضايا قدم فيها أوباما رؤية متوافقة مع مواقف دول الاعتدال في المنطقة، ومواقف المجتمع الدولي، مما يعني أن لديه الاستعداد للعمل مع الآخرين لحل المشكلات، وتقوية مؤسسات المجتمع الدولي. لقد تعاملنا وتحالفنا مع إدارات أمريكية سابقة لم تقدم نصف ما يعد به المرشح باراك أوباما، ثم كيف يمكن لنا أن نطالب مرشحاً رئاسياً أمريكياً أن يتخذ سياسة موافقة لمصالحنا في الوقت الذي لا نعرف فيه نحن مصلحتنا. الفلسطينيون تجاوزوا عامين من الحرب الداخلية المسلحة والعيش المنفصل، وهم ليسوا متفقين على أي شيء، حتى المبادرة العربية -التي كان يمكن لها أن تحقق اختراقاً في عملية السلام- أجهضها فريق من الفلسطينيين حتى قبل أن تبدأ. لعل أبرز انتقاد يوجه لأوباما هو عدم خبرته، وهو انتقاد في نظري لا معنى له، لأن آخر رئيسين في الستة عشر عاماً الأخيرة، جورج بوش الابن، وبيل كلينتون كلاهما دخل إلى البيت الأبيض دون أية خبرة في الشؤون الخارجية، ناهيك عن الاضطلاع بأزمات الشرق الأوسط. باراك أوباما يمكن تصنيفه في خانة الوسط الليبرالي داخل التيار الديمقراطي الحزبي الواسع، مما يعني أنه براجماتي بالطبيعة، وأكثر ميلاً نحو الوسط السياسي. وظاهرته السياسية - كما يشير عدد من الخبراء- توفيقية حزبية، مما يعني أنه قد لا يكون قادراً على إرضاء القاعدة الرئيسية للحزب (blue-collar workers)، ولكنه يحمل جاذبية كبيرة بالنسبة للمستقلين (swing voters)، ويسار الحزب الجمهوري، بل هناك اعتقاد سائد بأن يخلق أوباما خلال الانتخابات القادمة شريحة جديدة، يمكن تسميتها "جمهوريي أوباما"، على غرار "ديمقراطيي ريجان" الذين أفرزتهم انتخابات 1982الكاسحة، التي أوصلت رونالد ريجان للرئاسة.ولهذا فإن حظوظ أوباما بالفوز كبيرة، وليست محدودة كما ادعى البعض، كانوا يقولون بأنه لن يستطيع الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، ولكن إستراتيجيته الانتخابية نجحت.صحيح أن الانتخابات على المستوى الوطني تتطلب أكثر من كاريزما أوباما، أو دعوته التجديدية، وأمامها كذلك تحديات تتعلق بالعرق والثقافة السائدة، ولكن الفاصل فيها هي القضايا التي تهم الأمريكيين كالاقتصاد والصحة والأمن، وهي قضايا طرح فيها أوباما مشروعات بناءة حتى الآن. جون ماكين مرشح كبير، وذو خبرة سياسية فذة، ولكنه يفتقر لمقومات كثيرة، ليس أقلها أن حزبه يتمتع بمستوى شعبية متدنية نظراً لأداء إدارة الرئيس بوش، وحربه المتعثرة في العراق، بل إن ماكين ربط نفسه بسياسات الرئيس الاقتصادية، والعراق خلال هذا العام أكثر من ذي قبل، وهذا يجعله مرتهناً لنتائج هذه السياسات في خريف الانتخابات المقبلة. لست أدعي أنه سيكون لأوباما قدرة خارقة على تغيير الشرق الأوسط، لأن ذلك يتعدى قدرات أي رئيس أمريكي، وتجربة الرئيس بوش الأحادية عبر "مشروع الشرق الأوسط الكبير" هي خير مثال، ولكن أوباما يعد بتهيئة مناخ أفضل في السنوات المقبلة، يقوم على أعطاء المؤسسات الدولية، والأوروبيين، ودول الاعتدال في المنطقة فرصة أكبر للمشاركة في مناقشة قضايا المنطقة. ولعلي أضيف أن أوباما قد يكون أكثر حذراً من سلفه في التعاطي المباشر مع قضايا الشرق الأوسط في فترة رئاسته الأولى - لو انتخب -، وهنا ينبغي مراجعة تجربة بيل كلينتون الأولى، وتردده الكبير في التدخل في البلقان والعراق وأماكن أخرى. على موقع الحملة الانتخابية يعرض أوباما ما يسميه "Blueprint" لسياسته القادمة، ويمكن لمن يقرأها أن يلحظ بأنها تحمل لغة متطورة في رؤية مشاكل العالم، وأولويات حلها، وتحت فقرة "الصراع العربي-الإسرائيلي" يشدد أوباما على أن سياسة محاصرة ومقاطعة فلسطينيي غزة خاطئة، ويطالب بأن تقوم الولاياتالمتحدة واللجنة الرباعية برعاية مساعدات عاجلة ومباشرة للفلسطينيين لا تمر عبر "حماس" أو "فتح". مما يعني أنه مدرك لحجم المعاناة التي تسببت فيها السياسات الإسرائيلية، والانقسامات الداخلية الفلسطينية على المدنيين العزل. سيبقى أوباما مؤمناً بالمبادئ الأمريكية العامة، و واجبنا هو أن لا نأمل بتغيير تلك المبادئ - أو انتظار رئيس لتغييرها - بل في طرح مشروعات تتوافق مع المبادئ الأساسية لسياسة أمريكا، وتخدم مصالحنا في الوقت ذاته. مشكلة سكان المنطقة أنهم ينتظرون أن تحقق لهم مصالحهم كأنها واجبات ينفذها الآخرون، ولكنهم لم يفكروا مرة - كما تفعل جماعات الضغط الإسرائيلية - أن يكونوا رؤية مشتركة للمصالح بيننا وبين الأمريكيين، وهذا هو بيت القصيد. ماكين قد يغري البعض بالاستقرار واستمرار السياسات القديمة التي نعرفها، ولكنها في الحقيقة استمرار لسياسة بوش القديمة، وقد حان وقت التغيير. أما باراك أوباما فيمثل فرصة للتغيير، والعبور إلى فرص جديدة. وهذا هو المطلوب.