كنتُ قد تحدثت في المقال السابق في نبذة مختصرة عن السجل التاريخي لانتشار الإسلام في العالم القديم والتي يشار لها دائماً بالفتوحات الإسلامية .. ولا يفطن كثير من المهتمين بدراسة التاريخ إلى رؤية يستخلصها لأنفسهم دائماً متخصصو العمارة الإسلامية ودارسو تاريخ العمارة والحضارات وهي أن الإسلام ليس فقط في فتوحاته وإنما في المزج الحضاري والتسامح الديني والتسامح المعماري الذي عرفه العالم الإسلامي مع الشعوب الأخرى التي دخل الإسلام بلدانهم. منذ انتشار الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم بنو أمية وبنو العباس وحتى السلاجقة والمماليك والعثمانيين والدويلات التي حكمت الأقاليم لم يسع المسلمون إلى هدم دور العبادة أو تدمير الثقافة المحلية أو التعسف والجبر على الثقافة الإسلامية، وعندما اجتاز المسلمون الأوائل حدود الجزيرة العربية إلى العراق وإيران ومصر والشام وشمال أفريقيا، وبلاد الترك فيما يعرف قبل فترة وجيزة بالاتحاد السوفياتي، وأوروبا (الأندلس) والقارة الهندية أبقوا على الكنائس والأديرة والمعابد بدليل أن كثيراً من الكنائس حافظ عليها المسلمون طوال بقائهم في تلك البلدان ومن تلك دور العبادة في فلسطين والأردن وسوريا ومصر والعراق وتركيا وأسبانيا والمغرب العربي ووسط أفريقيا والهند وحتى أفغانستان.. ودور العبادة غير الإسلامية التي دمرت إنما حدث ذلك أثناء الحرب لأن كثيراً من السكان لجأ إليها ليحتمي ولكونها محصنة وهذا ما عرّض الكنائس والقصور والقلاع إلى التدمير المستمر والحرب العراقية أنموذج.. ففي حين تتم المحافظة على مباني العبادة للآخر من قبل المسلمين نجد أنه يتم في المواجهات التي تقوم على التطهير العرقي دائماً استهداف المساجد كما استهدفها الصربيون في البوسنة والهرسك في منطقة البلقان مرة في زمن جلاء العثمانيي،ن ومرة في الحرب الأخيرة.. أيضاً على الرغم من أن الكنائس والأديرة والمعابد أقدم في الانتشار والبناء إلا أنها بقيت على حالها لم تُهدم أو تُستهدف ولنا في أهم الآثار العربية انموذج مميز في المحافظة على تراث الآخر فلا الأهرامات ولا ابو الهول ولا حتى الكنائس في مصر والعراق والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان وتركيا تأثرت أو تهدمت بل بقيت تاريخاً شاخصاً للحضارة العربية قبل الإسلام حفظت لنا الطرز المعمارية والوحدات والتفاصيل المعمارية.. مثل هذه الحقائق لا يفطن لها بعض المؤرخين الذي يقرأ ويبحث في التاريخ السياسي لفتوحات سقوط المدن وقيام الكيانات السياسية؛ فالتلاحق الحضاري والتسامح المعماري وقبول الآخر يراه البعض أنه من اهتمام تخصصاتٍ أكاديمية اخرى.. الإسلام والفاتحون الأوائل كانوا متنبهين إلى حقيقة واضحة لديهم وهي الوثنية لذا تم إزالة الأوثان والأصنام التي تعبد من دون الله خشية أن تؤثر في عقيدة المسلمين في فجر الإسلام ممن دخلوا الإسلام حديثاً وبقيت أماكن العبادة لمن يؤمنون بدين سماوي وحتى هؤلاء الوثنيين وإن اختفت بعض تماثيلهم إلا أنهم بقوا في بلاد الإسلام يمارسون طقوسهم وحياتهم فالإسلام منذ بدايته الأولى مدّ يدَ التصالح والحوار واحترام الآخر.