على الرغم من ثوابت الجغرافيا السياسية، التي تحكم منطقة المشرقين العربي والإسلامي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فإن حالة سيولة استراتيجية، أو للدقة حالة "تسييل" استراتيجي، عمت وتعم المنطقة خلال العقد الحالي. ما ادى إلى انقلابات سريعة ومتلاحقة في علاقات القوى ببعضها، المحلية والإقليمية والدولية أيضاً. ثمة عناوين كثيرة لحالة الاضطراب والقلق والسيولة الاستراتيجية في منطقتنا، وهي حالة مرشحة للتفاقم، فيما بات يعرف ب"قوس الأزمات". وهي عناوين تتشابك وتتداخل وتتفرع، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل معقد، بين الحين والآخر، وتتحرك على مستويات جغرافية متعددة في دول الإقليم. واحد من تلك العناوين، التي تندرج في إطار "التسييل" الاستراتيجي، هو الدولة ودورها وهوية مجتمعها وتعبير تلك الدولة ودورها في صناعة تلك الهوية؛ فعلى الرغم من اختلاف أشكال الاستجابة والاستقصاء لضغوط التسييل الاستراتيجي، بين دول الإقليم، إلا أنها تتشابه في جوهر الأزمة وطبيعتها. وهو ما تدرجه دول الغرب في النظر إلى مشكلات الإقليم تحت عناوين موحدة كحقوق الإنسان والأقليات والديمقراطية والمذاهب والأديان والتطرف والإرهاب وغيرها. ومع بدء الحقبة الأمريكية في إقليم الشرق الأوسط وجواره، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تحدث المفكرون الفرنسيون عن بدء نهاية مفهوم "الدولة الأمة"، كما عرفته أوروبا منذ أربعة قرون، وكذلك ما تبعها من أشكال تقليد أو مماهاة في العالم، وبالتحديد في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. فمن المعروف أن الدولة قامت في أوروبا على أساس "ثقافة قومية". بمعنى، توافق مجموعة من السكان أو أغلبيتهم على مجموعة من الأساطير والسير والبطولات المنقولة عن الأجداد وسجلات التاريخ، مع مجموعة ثانية من القيم والأخلاق، على هيئة عقيدة أو دين، مع مجموعة ثالثة من السلوكيات والممارسات التي يشترك فيها هؤلاء السكان المتوافقون. وباستعراض النموذج التركي، يمكن تلمس الجذور الواحدة لحالة التسييل الاستراتيجي لجغرافيا المنطقة ودولها، في واحد من أبرز العناوين وهو الدولة والهوية. فالعناوين السياسية المتداولة، خلال السنوات الأخيرة، والتي تثير الاهتمام حولها بين الحين والآخر، تكاد تنحصر في الشأن التركي في: المشكلة الكردية، وانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والقضية الأرمنية، والعلمانية والدين. وما يتفرع عن الأخيرة من عناوين جزئية مثل: الحجاب، ووصول حزب التنمية والعدالة (بجذوره الإسلامية)، ومخاطر ذلك على علمانية الجمهورية التركية. المسؤولون الأتراك، يردون على اتهامهم بفشل الجمهورية التركية في حل المسألة الكردية طوال العقود الثمانية الماضية على تأسيس الجمهورية، بالقول: إنهم وضعوا "بالفعل حلاً لهذه المسألة منذ البداية، عندما أخذنا بالنموذج العثماني، القاضي بأن المسلمين جميعهم سواسية، وأن لا وجود لأقليات مسلمة بين المسلمين". في الحقيقة، ان الجمهورية التركية أقيمت على بعضٍ من الأسس التي أرستها دولة التحديث العثمانية، التي بدأت في اكتساب ملامحها منذ منتصف القرن التاسع عشر. فنظام "أنقرة" قام بإلغاء الخلافة، وتخلى نهائياً عن مسؤوليات الدولة العثمانية الإسلامية، سواء تجاه الرعايا السابقين في المنطقة العربية والولايات الأوروبية، أو المسؤوليات المعنوية للخلافة تجاه المسلمين كأمة. وأقام حكماً جمهورياً، ملغياً مؤسسة السلطنة، واحتفظ بمؤسسة البرلمان العثمانية، بعد تحويلها إلى مؤسسة تركية فقط. الجمهورية التركية استعارت فهم الحكم العثماني للهويات. ولكنها، أي الجمهورية، لم يكن حكمها قومياً، على الرغم من أن السلطة العثمانية المتأخرة حملت طموحات قومية ؛ فمؤسسو الجمهورية، غضوا النظر عن الكثير من متعلقات ميراث الهوية العثمانية، حيث استدعته الجمهورية كما هو. وافترض هؤلاء أن هناك مواطناً تركياً مثالياً، وهو "ان هذا المواطن بالضرورة تركي عرقاً، مسلم ديناً، وحنفي مذهباً". ليس لأن الدولة ذات اهتمام خاص بالدين أو المذهب، ولكن لأن تصور الدولة لمواطنيها لم يفسح مجالاً لتعددية ما، والمجتمع التركي الحديث أريد له أن يكون متجانساً وموحداً ومتماهياً في دولته. ومن أجل بناء مجتمع متجانس موحد، تعهدت تركيا الجمهورية برنامجاً واسع النطاق، كما يرى المؤرخ العربي بشير نافع، يشمل كافة نواحي حياة الأتراك واجتماعهم: من مناهج التعليم، إلى الثقافة والإعلام والفكر، وتغيير لغة الأذان، والأوقاف والمساجد، وقوانين الأسماء والعائلات، وصولاً إلى تقاليد ملابس العمل الرسمي، واللغة المتداولة في الأسواق والمكتوبة في الصحف. حيث ألغت كل أشكال ومظاهر التعبير الذاتي للأفراد والأقليات عن هوياتهم السابقة، بدءاً من الأسماء وانتهاء بنمط العيش. في الجوهر، كان هذا النموذج للدولة الحديثة مستعاراً من نموذج الدولة في الغرب الكلاسيكي، وبالذات في نمطها الفرنسي، الذي شكّل الإلهام للجمهورية التركية. وهو نموذج يرى أن الدولة هي المعبر عن كل متجانس، وهي الإطار الذي يتماهى فيه الشعب ونظام الحكم. بمعنى آخر هي "الدولة الأمة" بحسب التعريف العربي للدولة الحديثة. في النموذج التركي للجمهورية، شكلت استعارة نموذج الهوية العثمانية في دولة حديثة خطوة مسكونة بالتناقضات. وكان لابد لها من الوصول إلى تفجر المشكلة القومية في البلاد. وهي تجربة اخرى تختلف جوهرياً عن المناخات التي قادت إلى تكوين النموذج الفرنسي الأم، في فرنسا القرن التاسع عشر، حيث كان نصف طلاب مدارسها لا يعتبرون الفرنسية لغتهم الأم، إلى أن قامت الجمهورية الفرنسية بتعهد القومية الفرنسية وخلقها، ففرنست الشعب وبنت وعيه الجمعي، والحس القومي الفرنسي العام. قد تنجح حالات "التسييل" الاستراتيجي لجغرافيا وكيانات المنطقة، كما هو حادث ومستمر الحدوث في منطقتنا، غير أن حصر حالة القلق والاضطراب والسيطرة عليها في منطقة محددة بات أمراً مشكوكاً فيه؛ فتلك تجارب إنسانية جديدة وخطرة، ولا تخضع في تقديرات مفاعيلها العكسية إلى قاعدة الغالب والمغلوب التي عرفتها شعوب الأرض. أما المسألة الأهم، فهي كيف يمكن للساكنين في منطقة "القلق الاستراتيجي" أن يرشدوا مقاديرهم ومقادير شعوبهم، في هذه اللحظة التاريخية، لاسيما أنها مقادير لا تخضع للحسابات والمصالح الشخصية والفردية للحكام أو المحكومين..؟!