في أوائل الثمانينات الميلادية أي قبل أكثر من ثلاثين عاماً شاعت مقولة "ان المملكة تتربع على كميات هائلة من المياه تعادل مصب نهر النيل لمدة خمسمائة عام"، عندها بدأت زراعة القمح وتحملت الدولة أيدها الله بناء البنية التحتية لزراعة القمح حيث أعطت الأراضي ودعمت إنشاء الرشاشات المحورية وتسابق الأفراد والشركات على زراعته حيث كانت الدولة تشتريه بسعر تشجيعي يزيد عن ثلاثة ريالات للكيلو بينما كان سعره في الأسواق العالمية خمسمائة ريال للطن (أي بسعر نصف ريال للكيلو) ووصلنا خلال خمس سنوات إلى حد الاكتفاء الذاتي والتصدير والأهم من ذلك تكونت الخبرة في إدارة مثل تلك المشاريع حيث قارب إنتاج الوحدة أعلى مستوياته 8أطنان للهكتار. واليوم وبعد ثلاثين عاماً فقط تتردد مقولة أخرى "أننا أصبحنا على قاب قوسين أو أدنى من نضوب المياه" وأصبحت المحافظة على ما تبقى منه مسألة حياة أو موت وللأسف فلا المعلومة الأولى استندت إلى دراسات جيولوجية دقيقة ولا الأخيرة بنيت على بيانات دقيقة وإنما على دراسة أولية من البنك الدولي والتي بها تهدم كل ما بني من خبرات تراكمية وتهدر أموالاً أنفقت على البنية التحتية من رشاشات محورية ومضخات تحكي قصص نجاح حصلت المملكة بموجبها على أوسمة لأعلى مستويات الأداء والإنتاج لهذه السلعة الاستراتيجية واستطعنا ان ننتج قوتنا بأيدينا دون الحاجة إلى الخارج. لقد كتب الكثيرون في الصحف والمنتديات عن دوافع هذا الايقاف بين مؤيد يرى ان الماء ثروة لا يمكن التفريط بها والأفضل الاستثمار في بلدان لديها الوفرة المائية مثل السودان الذي يتمتع بمياه الأمطار الموسمية الدائمة ونهر النيل الذي يقدر محتواه بمليارات الأمتار المكعبة من المياه وبين معارض يرى ان الأمور في حالة ايقاف زراعة القمح ستوؤل إلى ما لا تحمد عقباها عند نقص امداداته كما حدث في مصر وأفريقيا وان الاستثمار في غير الوطن مدعاة لضياع الأموال بقرار سياسي ولا أدل على ذلك أحداث سبتمبر الذي حجزت بموجبها الحكومة الأمريكية أموال مستثمريين سعوديين ليس لهم علاقة بما حدث كما ان الاستثمار في الدول الآسيوية مثل شراء مزارع في تايلند أو الدول العربية مثل السودان الذي لم يؤمن الاكتفاء الذاتي لشعبه بسبب سوء الإدارة والحروب القبلية. ولا شك ان هذه الآراء جميعها مع اختلافها تصب في مصلحة الوطن والمواطن التي جعلها ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله نصب عينه، ولكن هذه الآراء لم تتطرق إلى المزايا النسبية التي يتمتع بها القمح نفسه دون غيره من السلع الاستراتيجية الأخرى مثل الرز والذرة ومحاصيل أخرى مرغوبة محلياً مثل أشجار النخيل والفاكهة والأعلاف والخضار والتي تطرق إلى بعض منها.. عضو مجلس الشورى الدكتور عبدالعزيز الثنيان أثناء مداخلته عند التصويت في المجلس على إعادة النظر في قرار الايقاف ولعلي أضيف إلى ما ذكره الدكتور عبدالعزيز بعض هذه المزايا: 1- القمح محصول شتوي أي أنه يزرع في الشتاء حيث يكون الاستهلاك المائي في أقل مستوياته خاصة إذا أنعم الله بالمطر الذي يتوقع هطوله في فصل الشتاء فتكون زراعة القمح أشبه ما تكون بالزراعة البعلية التي تعتمد على الأمطار في حين ان الأعلاف وأشجار النخيل والفواكه والخضار تستمر زراعتها على مدار العام وتواجهه موسم الصيف الذي يحتاج إلى اضعاف كميات المياه التي تستهلك في الشتاء إضافة إلى أنه يمكن استيرادها من الدول المجاورة مباشرة بخلاف القمح الذي يخضع لأسعار السوق العالمي. 2- القمح جذوره سطحية لا يتجاوز عمقها 15سم لذلك فإن ترطيب هذه المنطقة بالمياه أقل بكثير مقارنة بالأعلاف والنخيل الذي تمتد جذورها إلى حوالي متر ونصف. 3- عمر المحصول لا يتجاوز أربعة أشهر منها الشهر الأخير يدخل في موسم الحصاد الذي يتوقف فيه الري. 4- القمح محصول استراتيجي عالمي يخضع لقوانين العرض والطلب وقد ارتفعت أسعاره هذا العام بشكل حاد لنقص المخزون العالمي منه بسبب الجفاف في استراليا والجليد في الارجنتين ومن المتوقع في السنوات المقبلة ان يزيد الطلب عليه عند نقص المعروض خاصة عند تحول معظم الدول المنتجة له تقليدياً مثل أمريكا وكندا والاتحاد الأوروبي إلى زراعة الذرة وفول الصويا لإنتاج الوقود الحيوي الأغلى سعراً في السوق. 5- القمح قيمته الغذائية لاتقارن بأي سلعة استراتيجية أخرى حيث يدخل في صناعات تحويلية كثيرة لذلك فإن الاستفادة منه متنوعة على مختلف المستويات خاصة من قبل الطبقات المتوسطة والفقيرة من المجتمع. 6- إضافة إلى ما سبق ذكره من بناء البنية التحتية لزراعة القمح ومن الخبرة المتراكمة في طريقة زراعته وإنتاجه فإن تجاهل كل ذلك سيكلف الدولة وضياع كثير من حقوقها لدى المزارعين الذين لم تسدد مديونية البنك الزراعي عليهم. من تلك المزايا والمعطيات اخلص إلى التالي: القمح سلعة استراتيجية تضمن بعد الله الأمن الغذائي الوطني والماء ثروة وطنية تهم هذا الجيل والأجيال القادمة والموازنة بين زراعة القمح بمزاياه التي ذكرت والمحافظة على الماء بايقاف زراعة القمح يجب ان يخضع لدراسات مستفيضة وعليه أرى ان يدرس موضوع تأجيل القرار بايقاف زراعة القمح إلى مدة سنتين إلى ثلاث سنوات وفقاً لما يلي: أولاً: تسند زراعة القمح إلى الشركات الزراعية المساهمة والتي لها تجارب متقدمة في زراعة القمح بالطرق العلمية الحديثة مثل الجوف وتبوك ونادك وحائل وغيرها من الشركات التي تمتلك الدولة جزءاً منها. ثانياً: تحدد أماكن زراعة القمح بما يتناسب ووفرة المياه مثل شمال المملكة وجنوبها الأقل تأثيراً بانخفاض المياه. ثالثاً: يزرع فقط ما يؤمن الاكتفاء الذاتي المقدر بثلاثة ملايين طن في العام وفق استمارات خاصة من الصوامع. رابعاً: توضع أجهزة دقيقة لقياس مناسيب المياه في الآبار التي يروي بها القمح وتدرس بكل دقة من قبل وزارة المياه ووزارة الزراعة ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية على ثلاثة مواسم يتم خلالها تقدير الاستهلاك ومدى الانخفاض. هذا والله من وراء القصد،،،