عالم اليوم قرية صغيرة إذ ساهمت وسائل الاتصال والتقنية في ربط كافة أرجائه وما يحدث في أي جزء منه يشاهد ويسمع به في ثوان معدودة.. أو قبل أن يرتد إليك طرفك أو تقوم من مقامك.. فالانترنت.. والهواتف النقالة والقنوات الفضائية والإذاعات فتحت كل الآفاق.. وأضحى من المستحيل أن ينعزل أي جزء عن هذا العالم المفتوح. الزمن الذي نعيشه هو بالضبط عصر الانفتاح.. عصر تقاربت فيه الشعوب وتمازجت الثقافات.. وبات المكان غير حاكم للبشر.. ولا الزمان مقيدا لحرية الحركة.. فبضغطة زر يصبح العالم كله أمامك وكأنك تعيش بداخله.. وفرض هذا الانفتاح قيما جديدة تهدف إلى ترسيخ وتأصيل مبادئ التعايش السلمي مع مختلف الأجناس والأعراف.. والاستفادة من معطيات التقنية الحديثة.. وتنوعت مصادر التأثير والتلقي فلم تعد مقصورة على الأسرة أو البيئة المحيطة ما أدى إلى تراجع كبير في سلطة الوالدين وحدوث فجوة كبيرة بين الأجيال وذلك لعدم إلمام الوالدين بطبيعة تلك المصادر وكيفية التعامل مع الوسائل التقنية. ولذلك لم تعد التربية القائمة على القمع والإرهاب والتخويف وقتل المشاعر والأحاسيس وصياغة الشخصية الجافة الصارمة الناقمة على المجتمع الأسلوب الأمثل لتربية هذا الجيل.. فقد أدت إلى قتل المواهب والكبت والحرمان وولدت في نفوس الأجيال الرعب والخوف والهلع.. وسجنت العقول وبما أدى إلى الانغلاق والجمود الفكري والذي أفضى بدوره إلى تخريج أجيال تابعة سهلة الانقياد. عبارات وتوجيهات أسكت يا ولد.. لا تجلس مع الكبار.. أنت ما يعتمد عليك.. أنت فاشل فلان أحسن منك.. عيب عليك ما تستحي.. سودت وجيهنا.. ما فيك خير.. والحرمان من المال أو السيارة.. أو الخروج مع الزملاء بحجة عدم الوقوع في المحظورات.. واختيار نوعية الأكل والشرب واللباس.. وقسرالأبناء على دراسات لا يرغبونها.. وإجبارهم على اعتناق أفكار لا يؤمنون بها.. كلها في مجملها أساليب لم تعد مجدية.. فزمن العصا والفلكة وحلق الرأس ((صفر)).. والنهر والزجر والصراخ في وجوه الأبناء.. وركلهم ورفسهم وهم نائمون وجرهم مع شعورهم.. والبصق في وجوههم.. وتحقيرهم.. والتعامل معهم بفوقية وفرض الطاعة المطلقة عليهم ولى إلى غير رجعة وباتت أساليبه وطرائقه لا تتوافق البتة مع طبيعة عصرنا الحاضر. مثل هذه التربية القمعية القسرية قد تظهر في الأبناء ميزات الاتزان والالتزام والمثالية بيد أنها ربما تخبئ تحت السطح الكثير من السلوكيات غير السوية أو الشاذة.. لأنها ببساطة تربية تتسم بالازدواجية والتناقض والتعارض الصارخ بين ما يفرضه الآباء والأمهات وما يميل إليه ويهواه الأبناء وتؤدي في النهاية إلى ظهور قيم سيئة مثل النفاق والكذب والتحايل والغش والمنافسة غير الشريفة بين الأبناء. وعند خروج الأبناء من هذا التكبيل والحبس الجبري.. والتربية القاسية، وبعد أن يشبوا عن الطوق يتعرضون لسيل لا قبل لهم به من معارف وقيم فيحارون في الاختيار ما يوقعهم في نهاية الأمر في كل المحظورات والمحرمات التي حاول الآباء أبعادهم عنها طيلة سنين التربية ((فكل ممنوع مرغوب)). كي نربي أبناءنا وبما يتوافق مع عصر الانفتاح لا بد أن يكون لدينا إلمام كامل بمعطيات ومتطلبات هذا العصر.. وأن تتحول الأسرة إلى مجتمع ديمقراطي صغير ينعم كل فرد فيه بالحرية في الاختيار وإبداء الرأي .. والحوار المفتوح.. وتنمية الفكر الناقد.. وتعريض الأبناء لخبرات مختلفة كي يلمسوا بأنفسهم الفروق ويسهل عليهم عندها تحديد الأفضل.. وتحميلهم المسؤولية ليكتسبوا القوة والعزيمة لمواجهة المستقبل بكل تحدياته.. والتنازل عن الفوقية التي نتعامل بها معهم.. واعتبارهم أصدقاء.. والنظر إليهم على أنهم أعضاء أساسيين في الأسرة وتقبل النقد منهم.. وإشراكهم في اتخاذ القرارات.. وحفزهم وتشجيعهم.. وتخصيص أيام للاجتماع بهم أو الخروج معهم.. وممارسة الأنشطة والترويح بصحبتهم.. والتركيز على التربية الوقائية القائمة على بيان الإيجابيات والسلبيات والشواهد من الواقع دون فرضها بالقوة.. وترك الحكم في النهاية لهم.