تحصل هذه الحالة في الدماغ عندما يتعامل مع رموز قوية، أو عندما يكون العقل قد تشبع بأفكار مسبقة قوية عن المشهد، لدرجة إنكار ما يتعارض معها، وتجاهل ما تنقل العينان والمعايشة. وتنشأ هذه الحالة غالباً عند عدم استناد الحالة المعرفية على إجراءات تضمن أصالتها وصحة التئام عناصرها، ليكون المرء فيها الحكم من خلال آراء الآخرين وتصوراتهم للأشياء والقيم، لا من خلال التفكير في الموضوع المراد الحكم عليه مباشرة، واتخاذ الرأي المناسب تجاهه. فالحكمة تتطلب - حسب ديكارت - المعرفة الكاملة بكل ما في وسع الإنسان معرفته بالإضافة إلى تدبير حياته وصيانة صحته، ولكي تكون المعرفة كاملة يجب أن تكون الأحكام مستنبطة من العلل الأول.. ومنهج الفلسفة بالنسبة إليه هو حدس المبادئ البسيطة واستنباط قضايا جديدة من المبادئ لكي تكون الفلسفة جملة واحدة.. وحسب منهجه هناك أربع قواعد عملية (عبدالحسين شعبان: فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي، ص 70). القاعدة الأولى: أن لا أسلم بشيء إلا أعلم أنه حق متجنباً التسرع والأفكار المسبقة. القاعدة الثانية: أن أقسم كل مشكلة تصادفني ما وسعني التقسيم، وما لزم لحلها على خير وجه. القاعدة الثالثة: أن أسير بأفكاري بنظام فأبدأ بأبسط المعلومات وأسهلها معرفة، وأرتقي بالتدريج إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيباً. القاعدة الرابعة: أن أقوم في كل مسألة باحصاءات شاملة سواء في الفحص على الحدود الوسطى أو استعراض عناصر المسألة، بحيث أتحقق أني لم أغفل شيئاً. عرضنا الأسس النظرية للمنهج العقلاني في استصدار الأحكام بشكل مثالي، لكي نرى المثالب التي تؤدي عند نقص تطبيق هذه القواعد إلى حالة يمكن وصفها بهلامية المعرفة، وفي تسلسل المعارف المختلفة في ذهن الإنسان الذي يكتسبها بهذه الطريقة يقود الأمر إلى ما يمكن تسميته "هلامية الفكر". ومن الحالات العملية لهلامية المعرفة في وضعها البسيط ما وجدته من عرض المحامي محمد الدحيم في مقابلة له في جريدة الحياة (العدد 17223/ص27) الذي تحدث فيه عن دعوته إلى إنصاف قاسم أمين في فكرنا المحلي.. والإنصاف لدى القاضي الشرعي السابق لا يعني الوقوف معه أو تأييده، بل قراءة فكره أولاً، وفهم ما كتبه ثانياً، والحكم عليه ثالثاً من خلال ذلك الفهم الموضوعي قياساً إلى فكر المرحلة والبيئة التي عاش فيها قاسم أمين، والمنطلقات التي تحدد قصد عباراته وأهدافه.. كما دعا إلى ألا يتأثر في ذلك من يريد الحديث عن قاسم أمين أو غيره ما يقال عنه من الموجات المتتالية من الإضافات الصغيرة في التفاصيل، حتى تصل إلى مرحلة تكوين الصورة المختلفة كلياً عن الإطار المعتمد أصلاً على وقائع فعلية. ويقول الداعية في معرض تحليله ان "الحركة الإسلامية خصوصاً في السعودية لا تعرف عن قاسم أمين سوى دعوته إلى تحرير المرأة، وتحرير المرأة عندنا يعني إفسادها، تخيل حتى المعنى الصحيح للتحرير مفهوم خاطئ".. ويحث الشيخ محمد الدحيم محاوريه على قراءة مجموعة قاسم أمين (فهو لا يريد تبرئته ولا ظلمه في الوقت نفسه)، فهو - في رأيه - كان متوافقاً مع رأي السلفيين، بل كان يستعين في كتبه بأدلة من القرآن والسنة.. ولم يكن إسلامياً، ولكنه كان يعتمد على شيخه محمد عبده.. ويعتقد الشيخ الدحيم أن كثيراً من الإسلاميين لا يعرفون قاسم أمين إلا من خلال ما كتبه عنه محمد قطب، فهم لم يقرأوه مباشرة، بل قرأوا لمن رد عليه، ويلصقون اسمه في كل قضية تخص المرأة.. ويستخلص تجربته أخيراً من قراءته، ما كتب قاسم أمين، بأنه مرحلة وحالة وظفت لأغراض، وأنه صاحب رأي وافق رأيه الذي أطلقه زخم إعلامي في تلك المرحلة، وقوبل بالاستقطاب.. فمنهم من رحب به، وقال: إنه المصلح والمخلص للمرأة، ومنهم من قال: انه عدو للإسلام والمسلمين، ولم تكن المرحلة ناضجة للرؤية الموضوعية. أما أمثلة الحالات العملية لهلامية المعرفة في وضعها المركب، فتمثلها الحالة المعقدة التي ابتدأها عبدالصبور شاهين بتأويلاته الموسعة لآراء نصر أبو زيد في كتابه "مفهوم النص"، حيث عده كفراً لاختلافه مع بعض الآراء المتوارثة في الفكر الديني.. ولم تساعده خبرته الطويلة، وهو الأكاديمي المتخصص في اللغة، على التفريق بين الفكر الديني وعناصر الدين التي لم يتعرض إليها نصر أبوزيد. ولأن أحكام عبدالصبور شاهين كانت منطلقة من معرفة هلامية، فإنه نسي ما اتهم به نصر أبوزيد، ليقع في الفخ نفسه، بعد أن ترك لعقله العنان في كتاب متأخر، ليفصل بين خلق البشر ووجود شخصية آدم في تحليل لبعض الآيات القرآنية والأحداث الكونية في كتابه الذي يحمل عنوان: "أبي آدم - قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة". ولأن نار التطرف إذا أذكيت تحرق حتى من أذكاها، فقد انبرى للشيخ المكفر شيخ آخر يكفره. حيث ظهر الرد سريعاً من شخص اسمه عبدالله الموجان في كتاب اسماه: "أدم أبو البشر - رد على كتاب الدكتور عبدالصبور شاهين: أبي آدم - قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة".. وبما أن الكتابين صدرا عن دار نشر واحدة، وفي فترتين متقاربتين، فإن الشك يحوم أيضاً حول دار النشر، التي قد تكون شجعت أحداً لكتابة الرد رغبة في الإثارة والربح المادي. لكن النتجية واحدة، وتتمثل في أن تراكم السوابق والحوادث الفعلية في محاكمة الأفكار والوصول في تلك المحاكمة إلى أقصى مدى هي ما يؤدي إلى تلك الحالات المعقدة من هلامية المعرفة ثم هلامية الفكر. @ رئيس جمعية اللهجات والتراث الشعبي