في أحوال قليلة؛ وربما نادرة؛ يتسع فضاء الفن السابع لبزوغ قضايا ثقافية وفكرية يطرحها صنّاع الفيلم السينمائي من خلال الورق والكاميرا وحركة الشخوص وبقية عناصر الصناعة؛ بحيث تعدد مستويات الدلالة التي يقدمها العمل الفني إلى المشاهدين الذين هم بالضرورة ينتمون إلى سائر القطاعات الاجتماعية والشرائح الثقافية والتعليمية من القاعدة العريضة المتسعة للعامة؛ إلى القمة الضيقة المحتوية على النخبة. ونجاح الفيلم؛ وفقاً لتلك الرؤية الناضجة؛ يعني توصيل المضمون من خلال قيمة فنية ممتعة في الأساس إلى كل مستوى استقبالي بما يوافقه ويتسق مع مقدراته الفكرية والتذوقية والاستيعابية؛ فيحصد البسطاء جمالياتهم المبتغاة من الحدث الدرامي المباشر مقارنين إياه بمعطيات الواقع من حولهم؛ في حين يستبصر ذو الذائقة المتعدّية ما وراء الأحداث من إحالات مجازية وإشارات رمزية وأجواء فانتازية تخرج بالفن من حدود النمطية والقولبة؛ فضلاً عن قدرتهم على التفاعل الجدلي الخصب مع ما ينطوي عليه العمل الفني من أطروحات فكرية واشتباكات ثقافية مع التساؤلات والقضايا الكبيرة التي تشهدها المرحلة الراهنة على كافة الأصعدة. ويأتي فيلم «حالة حب»؛ لكاتب القصة والسيناريو والحوار أحمد عبد الفتاح والمخرج سعد هنداوي؛ محققاً هذا «الاشتباك الثقافي» مع «التساؤلات الجوهرية» في هذه المرحلة. وبعيداً عن التحليل الظاهري والتقييم الأولي لشريط الفيلم من المنظور السينمائي المجرد (فهذا ليس موضع هذه القراءة)؛ فإن هذا العمل الفني قد حرّك المياه الراكدة فيما يتعلق بمجموعة من القضايا المهمة في الشأن المصري والعربي مثل «الانتماء» و«العروبة» و«العلاقة بالآخر الغربي» و«حلم الهجرة من الشرق إلى أوروبا والولايات المتحدة» و«أطفال الشوارع» و«اهتمامات الشباب في مصر والعالم العربي» وغيرها. وهناك أمران أساسيان انبنى عليهما تكنيك السيناريو الذي كتبه عبد الفتاح؛ أولهما: الميل إلى التكثيف والاختزال في طرح الفكرة أو القضية؛ مع إعطاء الأولوية لتعدد وتنوع القضايا المشار إليها في الفيلم على حساب التقصي التفصيلي لكل قضية على حدة؛ بمعنى تغليب الامتداد الأفقي للأحداث والمشاهد على حساب التراكم الرأسي. والأمر الثاني الذي ينبني عليه تكنيك السيناريو هو: الانشغال بطرح التساؤلات فيما يخص القضايا سالفة الذكر أكثر من الاهتمام بإيجاد إجابات شافية لها. وهذا الأمر الثاني متسق بطبيعة الحال مع الأمر الأول، فالكاتب لا يرى نفسه باحثاً اجتماعياً يتعيّن عليه أن يتناول قضية واحدة بعينها من كافة الجوانب؛ ثم ينتهي به الحال إلى كتابة توصيات ختامية في النهاية! وإنما الكاتب هنا هو عين لاقطة لكثير من القضايا والهموم التي تشغله وتشغل جيله من الشباب؛ وهو يشير إلى هذه الهموم والقضايا عبر إيماءات فنية خاطفة وتساؤلات متلاحقة؛ ولا يكترث بالإجابات اليقينية؛ ربما لإيمانه بأن هذا ليس دوره؛ وربما لشعوره بأنه - مثل أبناء جيله - يمتلك الحيرة والشكوك؛ ولا يجرؤ على ادعاء امتلاك المؤكد واليقيني في قضايا اختلافية وجدلية. أما «تساؤلات المرحلة» التي حقق الفيلم اشتباكاً ثقافياً معها فهي متعددة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: «كيف يرانا الآخر الغربي، وكيف نراه؟»، و«بأية صيغة يمكننا التحاور مع الآخر؟»، و«ما هي المقومات التي تكفل النجاح لشبابنا حينما يرحلون خلف البحار ويقيمون في دول غربية»، و«أيهما أكثر تأثيراً في بناء الشخصية: المعطيات الوراثية وجذور النشأة، أم المكتسبات البيئية والمجتمعية؟»، و«فيم يفكر شبابنا؟» و«لماذا يرغب كثيرون في الهجرة؟»، و«هل العلاقة الراهنة بين الشرق والغرب تعبر عن تحاور ثقافات سلمي أم صراع حضارات مغرض؟»،..، وغيرها، وغيرها. وقد وظف الكاتب الحدث الدرامي البسيط من أجل الوصول إلى العمق الدلالي المرجوّ؛ فقصة الفيلم - الذي لعب بطولته هاني سلامة وتامر حسني وهند صبري وشريف رمزي ودنيا ومها أبو عوف - تقوم على المفارقة والتناقض؛ حيث انقسمت في بداية الفيلم أسرة مصرية مكونة من أب وأم وابنين إلى قسمين؛ القسم الأول (الأب الرسام والابن سيف) اختار الهجرة إلى فرنسا والإقامة بها، والقسم الثاني (الأم والابن يوسف) تمسك بالبقاء في الوطن. وبعد مرور سنوات طويلة يلتقي الابنان على أرض مصر (يتعرف كل منهما على الآخر في مشهد فانتازي)، ولكل منهما حياته ومشكلاته وطموحاته وهمومه؛ فسيف يعمل مصوراً صحفياً ومخرجاً للإعلانات ويتم تكليفه لعمل فيلم عن أطفال الشوارع في مصر، ويوسف يحلم بأن يكون مطرباً له شخصيته وهويته الخاصة (المصرية العربية) . وثمة أمران مشتركان في حياة كل أخ، الأمر الأول هو وجود حبيبة مخلصة تدفع كلاً منهما إلى الأمام ليحقق مشروعه بدون تقديم أي تنازلات، والأمر الثاني وجود صديق لكل منهما تدفعه ظروفه السيئة إلى الانحراف والضياع أو الهلاك. فصديق سيف في فرنسا يعيش بدون إقامة حاملاً أوراقا مزورة؛ وينتهي به الحال إلى المخدرات ومطاردة الشرطة له ثم الموت مقتولاً. وصديق يوسف في مصر يحلم بالسفر والهجرة للخارج، ويراسل فتاة أمريكية عن طريق الإنترنت ؛ فتستغله وتورطه معها في تجارة المخدرات التي تودي به إلى السجن! ومن خلال كافة المشاهد الصراعية والصدامية؛ سواء بين الأخوين معاً أو في حياة كل منهما على حدة؛ يتمكن الكاتب من صياغة تساؤلاته وأفكاره المفتوحة التي تثير شهية المشاهدين للتفكير والدهشة. ورغم أن السيناريو مفتوح في معظم حالاته على كافة الوجوه والاحتمالات؛ فإن ثمة انحيازاً ما يتجلى في الرؤية العامة التي تحكم تجربة هذا العمل الفني؛ وهو الميل إلى إيضاح أن الهروب من مشكلات الواقع والوطن بالهجرة إلى الخارج بدون ضمانات كافية هو في حقيقة الأمر هروب من ضياع إلى ضياع أكبر؛ فجميع الذين هاجروا في الفيلم أو فكروا في الهجرة بدون هدف واضح تضخمت مأساتهم وزادت معاناتهم في نهاية الأمر!