في مدينة عرعر القابعة في الطرف الشمالي من المملكة تقل الخيارات البديلة أمام المواطنين، وكثيرا ما يكون الحل واحدا مكلفا؛ ففي هذه المدينة تغيب كثير من الخدمات الضرورية، وإذا وجدت فغالباً تكون مبتورة، ومقصوصة الجناحين!! قيادتنا الرشيدة أولت القطاعات المهمة عناية خاصة، ورصدت لها الميزانيات الضخمة، حرصاً على راحة مواطنيها، ولكن المواطن كثيرا ما يفاجأ بأن بعض الخدمات لم تستجب لطموحاته بالشكل المأمول، ومن ذلك الخدمات الصحية، لا تزال الخدمات الصحية بمنطقة الحدود الشمالية تسير بعكازين، وتراوح مكانها منذ سنوات طويلة وحتى هذه اللحظة!نقص في الكادر البشري..نقص في الأجهزة الطبية..نقص في التخصص.. نقص في الخدمات..نقص حتى في مستوى النظافة..أخطاء في تشخيص الحالات المهمة!! تشاركها في قصور الخدمات بالمنطقة وزارة الشؤون الاجتماعية التي لم تفتح مركزا واحدا لذوي الاحتياجات الخاصة، وكأن هذه المنطقة لا يوجد فيها أحد من هذه الفئة التي تعذبت وتكبد ذووها مشاق السفر إلى مناطق أخرى بدءا من الجوف ومرورا بالعاصمة الرياض، وكثيرا ما شد بعضهم رحاله إلى الأردن وسوريا بحثا عن نهاية لقصة معاناتهم التي استمرت طويلا دون أن تجد حلاً مجدياً!! وعلى الرغم من أن مدينة عرعر - وحدها - تضم مئات المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة الذين هم بأمس الحاجة إلى هذه المراكز التي تذلل كثيراً من صعوبات الإعاقة وتقدم مناخاً مساعدا لقهر سطوة هذا المرض إلا أن أهالي هذه المنطقة(معاقين أو أولياء أمورهم) حرموا من أبسط حقوقهم الخدمية في هذا المجال، وكانت أمانة المنطقة - على بعد علاقتها - أكثر رأفة بهذه الفئة من المعنيين بشأنها من الجهات المتخصصة؛ إذ كلف أمين أمانة منطقة الحدود الشمالية المهندس عبد المنعم الراشد القائمين على توزيع الأراضي بإعطاء هذه الفئة أولوية خاصة نظرا لظروفها التي يجب على المجتمع تقديرها. وقال ل " الرياض" مدير العلاقات العامة في أمانة المنطقة محمد بن سبتي العنزي أن المشمولين بالأولوية بلغوا حوالي 3000شخص. كثير من أبناء المنطقة غادروها في رحيل مؤقت أو طويل لأن أبناءهم أو ذويهم يحتاجون لرعاية خاصة لا يجدونها في مستشفيات المنطقة، فضلا عن مراكز التأهيل التي لا توجد أصلا!! والغريب في الأمر أن من رحل لهذه الأسباب قبل خمسة عشر عاما إلى مدينة الرياض أو غيرها، قاصدا العلاج في مستشفياتها يشبه من رحل هذا العام، فالنقص كما هو، ولم يتغير إلا عدد السنين، أما الخدمات المفقودة فهي تعيد سيرتها الأولى!! معاناة أبي عبدالرحمن أصحاب هذه المعاناة تحدثوا عن آلامهم بحزن وإحباط، وكانت ملامحهم تحكي قصة مأساتهم؛ فأبو عبدالرحمن (تحتفظ الرياض باسمه وتقارير ابنه ) - الذي طلب النقل المؤقت عن طريق التكليف في مدينة الرياض منذ عامين، وتكبد ديونا طائلة لقاء المصاريف والإيجار وكونه رباص لعائلتين إحداهما رحلت معه، والأخرى بقيت في عرعر- يقص حكايته الغريبة فيقول: نقلت إلى الرياض في العام الماضي من أجل الحفاظ على حياة ومستقبل ابني، وقد تستغربون إذا علمتم أن رحيلي من عرعر بسبب نقص جهاز طبي واحد!!ويواصل أبو عبد الرحمن حديثه: يعاني ابني من حرمانه من نعمة النطق والكلام، وتكمن مشكلته في نقص سمعه، ونقص السمع سبب في عدم النطق حيث يحرمه من اكتساب ثروة لغوية في بداية الطفولة، وهذا الأمر لم نكتشفه إلا بعد مضي ثلاث سنوات، ثم تأكدنا بعد بلوغه الرابعة أن ضعف السمع بدأ واضحا، ومشكلة تأخرنا في اكتشاف علته تكمن في أن مرضه لم يكن صمما، وإنما كان في البداية لا يسمع جيدا، حيث كان يسمع الأصوات العالية وفوق المتوسطة بينما لا يسمع الحديث العادي، وهذه الإعاقة تكتشف -عادة - منذ الولادة أو في السنوات الأولى إذا كان المستشفى الذي يراجعه الطفل فيه أخصائيون، وتحل هذه المشكلة في بدايتها عن طريق تهيئته على يد متخصصين أو عن طريق وضع سماعات خاصة. ويضيف أبو عبد الرحمن : بعد أن علمت بوجود شبه إعاقة ذهبت قبل عامين إلى مستشفى عرعر المركزي وعرضت ابني على طبيب من جنسية آسيوية، وفحص عليه، ثم حوله إلى قسم الأشعة، واكتشفت، لحظتها، وبالصدفة وعن طريق أخصائي الأشعة - من جنسية عربية - خطأ فادحا ارتكبه الطبيب في تشخيصه للحالة حيث ذكر أن ابني متخلف عقليا، وقد قال لي أخصائي الأشعة - لحظتها - محذرا من وهم الطبيب: لا يوجد عند ولدك أي تخلف عقلي، ومشكلته تكمن في السمع؛ فاذهب إلى مستشفى متخصص لأنه لا يوجد لدينا جهاز لقياس السمع!! وهنا عزمت على الذهاب إلى مستشفى متخصص بعد أن أدركت أن المستشفى المركزي في عرعر لن يقدم لابني أي تقدم بسبب سوء التشخيص وعدم وجود الأجهزة المصممة لهذا الغرض، خاصة وأنه بدأ يفقد سمعه تدريجيا، وعندما راجعت التخصصي تفاجأت بالطبيب يذكر لي خطر هذا الأمر، حيث قال: لو تأخرت ووصل عمر ابنك سبع سنوات فإنه لن يتكلم طوال حياته، ثم ذكرت لي الطبيبة المعالجة في المستشفى التخصصي أن كثيرا من أهالي المناطق البعيدة يأتون بأبنائهم بعد بلوغ السن السابعة ووقتها يكون الأمر قد فات لأن مرحلة اكتساب اللغة عند الأطفال تكون قبل بلوغ هذا السن،فالطفل بعد ذلك لا يستجيب للعلاج . ولم تقف مشكلة أبي عبد الرحمن عند هذا الحد، حيث يقول: بعد أن علمت بأنه قرار مصيري، وأن مستقبل ابني يقف على بقائه في مدينة (الرياض) قررت مغادرة مدينة عرعر في العام الماضي، متحملا أعباء ثقيلة، أسأل الله أن يعيننا على حملها، و لا شك أن هناك ثمنا غاليا دفعته، ولكن مصلحة ابني كانت فوق كل شيء، وقد تضاعفت معاناتي بعد أن وجدت مراكز التأهيل التابعة لمعهد الأمل لا تستقبلنا إلا مرة واحدة في الأسبوع، وهذه المرة الواحدة تخدم من تم اكتشاف حالته مبكرا، أما عبد الرحمن فيحتاج أكثر من جلسة في الأسبوع، وهذا ما جعلني أذهب به إلى مراكز خاصة أدفع لها في الجلسة الواحدة 150ريالا، ويحتاج عبد الرحمن إلى أكثر من ثلاث جلسات أسبوعيا، وقد كلفني ذلك مبالغ مالية كبيرة قياسا على دخلي المتواضع مما جعلني أكلف نفسي فوق طاقتها!! ومن هنا فأنا أناشد المسؤولين بالنظر في وضعنا الصعب، وأتمنى أن يتوفر في المنطقة أجهزة قياس سمع، وأخصائيو قياس سمع ونطق، ومراكز تأهيل ترفع مستوى قدرة ذوي الاحيتاجات الخاصة، وتهيئهم للاندماج مع المجتمع . نحتاج إلى مراكز لذوي الاحتياجات الخاصة أما أبو فيصل (تحتفظ الرياض باسمه وتقارير ابنه) فتتشابه إعاقة ابنه السمعية مع حال عبد الرحمن وكذلك رحل هو الآخر من عرعر قبل أيام بعد أن حزم أمتعته متوجها إلى الرياض، و قام بنقل أطفاله من مدارسهم، واستأجر بمبلغ كبير قياسا على دخله المتواضع، وكلف نفسه ما لا تطيقه بعد أن قال له الطبيب المعالج في التخصصي: عليك الانتقال إلى مدن فيها مراكز متخصصة لأن الأمر بالنسبة لابنك مصيري، فهي مسألة لا تحتاج إلى نظر، لا تتأخر فتضحي بمستقبل ابنك، فهذا السن حساسة، وفيه تتكون اللغة، ولا تبعد شكوى أبي فيصل عن شكوى سابقه؛ فهمومهما متشابهة، ويؤكد أبو فيصل على حاجة المنطقة إلى مراكز تأهيل وتدريب لضعاف السمع و البصر، بل حاجة المنطقة الماسة إلى المراكز الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة صغاراً وكباراً؛ لأن معاناتهم شديدة، وذويهم في وضع صعب جدا، ووجود هذه المراكز ضروري لأنها تحقق حاجة هذه الفئة من خلال تأهيلها لمعايشة المجتمع وتخفيف عبء هذه الاعاقة وتقديم العلاج اللازم لها. ظروفنا المادية صعبة المواطن مرضي بن سودي كان من أكثر المطالبين بإقامة هذه المراكز في مدينة عرعر أسوة بالمناطق الأخرى، يقول سودي: المنطقة بحاجة ملحة جدا إلى جمعية للأطفال المعاقين، وكذلك مركز للسمع، ومركز للنطق، إضافة إلى مركز تأهيل شامل يشمل كبار السن وصغارهم بما في ذلك دور النقاهة لكبار السن الذين لا يجد بعضهم عائلا يعينه على معايشة الحياة ومواجهة ظروفها، ولذلك يكون لدور الرعاية الاجتماعية في مثل هذه الظروف أهمية قصوى، ويضيف سودي: سبق أن طالبت عن طريق المخاطبات بتحقيق هذه المطالب المهمة، فأنا أحد المعنيين في هذه القضية فابني يعاني من إعاقة بسيطة بسبب صعوبة النطق مما جعلني أتجه إلى العاصمة الرياض لأتمكن من تأهيله وإلحاقه في التعليم وتدريبه على النطق من خلال معهد الأمل. ويؤكد سودي على أن هناك كثيراً من أهالي المنطقة يعانون الأمرين بسبب إعاقات أبنائهم و لكنهم لم يستطيعوا الاستقرار في الرياض بسبب ظروفهم المادية الصعبة فأصبحوا دائمي السفر متنقلين مابين الرياضوالجوف والأردن يتكبدون عناء السفر، وتكلفهم رحلاتهم مبالغ طائلة قياسا على ظروف بعضهم الصعبة . قلبي يتقطع على ابني أما المواطن خلف الشملاني فمعاناته بدأت منذ سنوات بعد أن شخص مستشفى عرعر حالة ابنه تشخيصا خاطئا، ثم تم تحويله إلى مجمع الرياض الطبي، (قسم العظام)، يقول الشملاني : أنهكتني المواعيد خلال عامين، ثم استمرت معاناتي بعد ذلك متنقلا مابين الرياض والأردن وصرفت خلال رحلاتي الكثير من المال والجهد، وفي النهاية أوصى المختصون في مستشفى الملك فيصل بإدخال ابني الذي بلغ خمس سنوات مركزا للتأهيل الشامل في الرياض أو في الأردن ولم أستطع ذلك لأن تكلفة الرحلات ومصاريف المراكز أكبر من طاقتي، وبقيت أتفرج وأتقطع ألما وحسرة حتى هذه اللحظة. الوضع صعب.. ولم يكن فهد بن شطيط العنزي أقل معاناة من سابقيه؛ فابنه محمد ذو الثلاث سنوات بدأت عليه علامات ضعف السمع مبكرا، وتحديدا قبل عامين، حيث كان لا يلتفت لنداء أهله،مما جعلهم يذهبون به إلى مستشفى عرعر المركزي بحكم كونه أكبر جهة طبية في المنطقة، يقول العنزي كانت المفاجأة مذهلة عندما قال لي استشاري هذا المستشفى : ابنك سليم ولا يعاني من شيء، ومن المضحك المبكي أننا أقنعنا - وعن طريق الشفعاء الخيرين - هذا الطبيب بمرض الطفل محمد، وكونه يعاني من صمم في أذنيه، مع أن اكتشاف ذلك بدهي ؛ فالطفل لا يستطيع النطق، وهما متلازمان كما هو معلوم، ويضيف العنزي: بعد ذلك تم تحويل ابني إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي، وهناك طلبوا مني إقامة دائمة في منطقة الرياض أو قريبا منها - كما يذكر التقرير الطبي - الذي نص على تقديم الدعم لوالدي الطفل للانتقال إلى مدينة كبيرة لحاجة الطفل إلى عملية غرس قوقعة، و ضرورة مراجعته لمراكز متخصصة بشكل كبير لإعادة تأهيل السمع ليتمكن من تطوير اللغة في هذه المرحلة الخطرة باستخدام سماعتي الأذن لتتحسن حالته. ويواصل العنزي حديثه : من الصعب أن أنتقل إلى الرياض لكوني موظفا في عرعر، وكذلك دخلي الشهري لا يتجاوز 3700ريال، ولا يخفى على أحد ما يعنيه هذا الرقم لمن يعول أسرتين مع وجود التزامات أخرى، خاصة وأنني أنفقت كثيرا في مستشفيات الرياض الخاصة من أجل علاج ابني، ويستحيل في وضعي الصعب أن أنتقل، وأنا الآن في كل يوم أقاسي هموما لا تطاق بسبب تضرر ابني من عدم انتقالي، ولم يبق لي بعد الله إلا مناشدة حكومتنا الرشيدة لإنشاء مركز تأهيل طبي في عرعر رحمة بأبنائنا الضعفاء. الأطفال الأبرياء هم الضحية "الرياض" التقت بالأستاذ جاسر بن فاحس الصقري معلم التدريبات السلوكية بفصول التربية الفكرية (أخصائي نفسي) وقال إن المنطقة بحاجة ماسة إلى مركز تأهيل شامل، وكذلك جمعية للأطفال المعاقين، كما أكد على حاجة المنطقة إلى مركز للسمع والنطق لخدمة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وأوضح أن أولياء أمور هؤلاء الأطفال يتعرضون لمشقة شديدة نتيجة تكبدهم السفر إلى المناطق المخدومة بهذه المراكز، ويضيف الصقري : المنطقة تفتقر كذلك إلى مركز ملاحظة اجتماعية لخدمة المسنين الذين لا يوجد لهم عائل، أو دور إيواء، ويعلق الصقري على مشكلة ذوي الاحتياجات الخاصة بقوله : بحكم طبيعة عملي بالقرب من هذه الشريحة أرى ضرورة الاستعجال بإنشاء المراكز التي تؤهلهم وتدربهم ليستطيعوا التفوق على إعاقتهم ويتمكنوا من التعايش بطمأنينة مع المجتمع، وكلما تأخر هذا المشروع فإن الأضرار المترتبة على تأخره جسيمة، وسيكون ضحيتها هؤلاء الأبرياء!! جمعية حقوق الإنسان تتبنى القضية من جهة أخرى حاولت (الرياض) أن تلتقي أحد مسؤولي حقوق الإنسان لتأخذ رأيه في هذه القضية الإنسانية لهذه الفئة التي تستحق كل العناية، و ما يترتب على أثر إهمالها في المنطقة حيث أكد نائب رئيس جمعية حقوق الإنسان الدكتور مفلح بن ربيعان القحطاني على أهمية الاهتمام بهذه الشريحة و ضرورة أن تولى عناية خاصة، ووعد بمتابعة هذه القضية بالتنسيق مع الجهات المعنية لكي تقدم هذه الجهات الدعم المادي لذوي الاحتياجات الخاصة، وتسهل مهمة تعليمهم، وقال: نحن في الجمعية سندرس وضعهم ونتبنى الأفكار التي تعود عيهم بالفائدة، وحول انتقال بعض أولياء هؤلاء الأطفال إلى الرياض من أجل علاجهم وتأهيلهم قال القحطاني: يفترض أن تؤمن لهم الخدمات في مناطقهم، ومن واجب الجهات التي تدخل في اختصاصها مثل هذه الحالات أن تقوم بدراسة مسحية حول العناصر المعنية التي ينبغي علاجها أو مراعاتها وتقديم الخدمات لها، ومن ثم تقدم لها الخدمات في منطقتها، مؤكداً على أن قضية رحيل أولياء أمور هؤلاء الأطفال من مدينة لأخرى للحصول على الخدمات الضرورية لعلاج أبنائهم أو أفراد أسرهم فيه كثير من المشقة، وفيه أيضا عبء آخر حيث يتركز الأشخاص في المناطق المأهولة ذات الكثافة السكانية العالية والمدن الرئيسية، وتتزايد الهجرات من المدن أو المناطق الأقل كثافة سكانية إلى المدن المزدحمة بالسكان، وهذا له أثر سلبي، وكل ذلك بسبب نقص الخدمات في تلك المناطق، ويضيف : هذه القضية الإنسانية ستكون محل اهتمام مسؤولي الجمعية، والجمعية تهتم بمثل هذه الحالات، وتقوم بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتوفير الخدمات في المناطق التي يتواجد فيها المستهدفون بالخدمة.