لا أحد يشك بأداء أحد من المسؤولين في الجامعة العربية، خصوصاً أمينها العام الحالي المعروف بصدقه العربي، ولكن لا أحد أيضاً في لبنان العربي الجريح إلا ويسأل مع ولادة كل فجر ومنذ سنوات، أين هو ذلك النظام العربي المشترك الذي يشعر معه بحد معقول من الأمان؟ ؟ كل يوم جديد يمر على الأزمة اللبنانية وشجار الأكثرية والأقلية، تبدو الساحة السياسية اللبنانية قبيل انعقاد القمة العربية في دمشق اشبه في تفاقماتها واشتباكاتها بمرآة تنعكس فيها صراعات تتعدد وتتضخم باستمرار، حتى ليكاد يتعذر تعقيل الاتجاهات السائرة فيه باستمرار الى مزيد من توسيع الخلافات، بعيداً عن عقلية تدوير الزوايا التي تحتاجها اوطان عربية حرصت القوى الكبرى دائماً على ابعادها بعضاً عن بعض خصوصاً بعد قيام اسرائيل. من الغرور، بل واكثر من الغرور، تصور امكان اصلاح العلاقات العربية العربية، انطلاقاً من لبنان، ولكن يبقى ضروريأ اسماع العرب تخوف لبنان كوطن عربي، من المخاطر التي تهب عليه وعلى غيره من القصور العربي الحالي عن اقامة عمل مشترك فعال، يشعر لبنان، انه مع فلسطين من اوائل المتضررين من غياب نظام عربي فعال يحتاجه الجميع. رغم ان عقلاء اللبنانيين بكثرتهم الساحقة لا يميلون الى اعفاء انفسهم من مسؤولية ما يعانون من مآسي ومشكلات اصابت في الصميم كبرياءهم كشعب ومجتمع متقدم نسبياً من بعض النواحي، ورغم ان غالبيتهم تعيش بجدية لوماً للذات كحكام ومحكومين قبل لوم الآخرين عرباً وغير عرب، فان كثيرين منهم باتوا مفجوعين من نقص الفعالية في ما تعودوا ان يسموه بالنظام العربي. لقد ثبت ان اللبنانيين، بعكس ما يتهمهم به بعض اخوانهم في المنطقة، ليسوا انعزاليين، بل هم بوجه الاجمال من اكثر العرب شعوراً بالرابطة العربية، واحسنهم ظناً بما يمكن ان يقدمه النظام العربي، لا كمؤسسة عروبة ثقافية رسمية فقط، ولا كجامعة دول عربية، بل كمجموعة واقعية من العلاقات الحياتية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ربطت وتربط العرب من قبل ان تكون لهم جامعة رسمية، وقبل ان تقوم الجامعة، كنا جميعاً في الهم شرق، نتساعد كشعوب ومجتمعات وقادة في مواجهة الأخطار والضغوط والمصالح التي تتنافى مع مصالحنا واهدافنا الوطنية، وما نريده لانفسنا كعرب، فمن قبل نشوء الجامعة العربية، كنا عبر وسائل الاتصال وحركة الطلائع والاستعداد لدفع ضريبة وحقوق الاخوة، امة واحدة، نسير الى التحرر معاً. قبل ان تكون جامعة دول عربية، كانت دائماً ملامح عروبة شعبية جامعة قادرة على ان تشعر آخر عربي في افريقيا انه اخ لآخر عربي في آسيا. كانت ولادة جامعة الدول العربية انجازاً عربياً بلا شك، ولكن مع ذلك، كثيراً ما لوحظ تباطؤ نحن جميعاً كعرب مسؤولون عنه، في تحويل الجامعة الى ما ارادته وتريده منها شعوبها. فمسيرة الجامعة لا يجوز ان تتحكم بها آلية المراعاة والتنسيق مع كل ظروف الدول العربية، قبل الاستماع الى اي نبض ينبض في قلوب الشعوب العربية. لا أحد يشك بأداء احد من المسؤولين في الجامعة العربية، خصوصاً أمينها العام الحالي المعروف بصدقه العربي، ولكن لا أحد أيضاً في لبنان العربي الجريح إلا ويسأل مع ولادة كل فجر ومنذ سنوات، أين هو ذلك النظام العربي المشترك الذي يشعر معه بحد معقول من الأمان، كل شعب عربي يتعرض كما يتعرض لبنان اليوم لخطر الكفر بالذات قبل الغير؟ فمن يتجاوب مع لبنان اذا لم يتجاوب معه النظام العربي. واين يكون النظام العربي اذا لم يكن في جامعة الدول العربية في عهد امينها العام المتحمس الحالي، العارف بلا شك بالخطر الخاص على العروبة الجامعة حين نجدها تحترق في لبنان الذي ما استقل إلا عندما تعرب، وما تعرب إلا وهو يشهد ولادة جامعة الدول العربية بصفتها وعداً بالنظام العربي الواحد الذي من ادق توصياته في الحالة اللبنانية: "سيروا سير اضعفكم" ودفع المغارم اولى من جلب المغانم. ان تكليف لبنان فوق طاقته، سواء في الحرب او في السلم، امر لم يقره سلف لعمرو موسى، ولن يقره على الأغلب خلف له. وليس المطلوب هنا الانحياز لفريق لبنان على حساب آخر، بل المطلوب اشعار كل شعب عربي محدود الحجم والقدرة كلبنان، ان هناك الى جانبه نظاماً عربياً عاماً ينسق معه وبموضوعية ويحميه من صرخات الافراط (او المزايدة)، كما يعينه على عدم التفريط. ان جرح لبنان الأكبر بين التفريط والافراط ناتج عن عجز عربي مع الاسف، مصدره قصور الأسرة العربية عن ايجاد نظام عربي يشعر معه جميع من في المنطقة من حكومات وشعوب عربية، انه حقيقة قائمة يتعقل معها الكبير من ابناء المنطقة ويتشجع الصغير. فما يجري في لبنان، سواء من المزايدات او المناقصات، يكاد يهدد وجوده وثقته بنفسه وهو ثمرة تأخر عربي عام عن ايجاد النظام العربي الذي يضطر معه القوي من الأنظمة العربية لان يحسب حساب غيره، ويتشجع الضعيف في تنمية قدراته. ان ما حدث ويحدث اليوم في المسألة اللبنانية، يقرب ان يكون حالة شلل خطرة داخلياً وخارجياً ويتسبب بقصور سياسي عربي عام. يشل الضعيف من الأوطان العربية ويحرج القوي. واول من يتضرر منه كما يلمس اللبنانيون هو مجتمعهم ودولتهم وطموحهم الى مستقبل تعودوا ان يعدوا به اجيالهم الطالعة ويقدموه على انه صورة تستحق ان تلهم خيال كل وطن من اوطان العروبة، وفجأة يرون انفسهم بعكس ذلك مصدر خوف واحباط لاخوانهم العرب ومطمعا للاعداء المشتركين. اين ذلك كله من الأيام التي كان فيها لبنان يعد احد انجح الوجوه لحاضر المنطقة العربية ومستقبلها، فمعركة استقلاله عام 1943كانت مفخرة لكل انسان عربي، قدمت لاخوته العرب حلماً جديراً بالتبني، خصوصاً بعد ان رأى العرب المكان والفرصة اللذين اعطاهما لبنان للقضية الفلسطينية، وهو لم يكد ينهي قضية استقلاله عن فرنسا، حتى اصبح المحتضن العملي للنضال الفلسطيني. انه يتذكر الآن كل ذلك، لا ليزهو على احد، بل ليقول انه كلما ساعدته الظروف للقيام بوثبة عربية او للمساهمة في مثل هذه الوثبة، ما كان ليتأخر لحظة عن الاشتراك في اي قضية عربية. واذا كان لبنان قد اختار دائماً النظام الديموقراطي، فانه بقي ماداً يده الى التعاون مع كل عربي، اياً كان نظام الحكم الذي يختاره هذا الأخ، بما في ذلك المنظمات التي شكلتها السلطات الفلسطينية الرسمية او شبه الرسمية او حتى الشعبية. وكما قال بعض اللبنانيين الحاكمين من اصدقاء القضية الفلسطينية في فترة حرجة: ان لبنان قد تفانى في القضية الفلسطينية حتى كاد يفنى. ولكن ذلك ما كان يمكن ان يكون ويستمر لولا انه كان ايضاً آنذاك في العالم العربي ما يمكن ان يسمى حرصاً على قيام نظام عربي ينسق بين المبادرات التي تقوم بها قوى عربية مجاهدة، وبين مصالح وظروف الدول والمجتمعات والسلطات، مما اعطى ويعطي للكفاح العربي الرسمي وشبه الرسمي كالفصائل والحركات، فرصة العمل ومراعاة الهويات والجهات الرسمية في الوقت ذاته. اين نحن الآن من تلك الأيام التي كان فيها لفترات غير قصيرة ما كان يمكن ان يسمى النظام العربي الموكل اليه رسمياً، واحياناً بشكل غير رسمي، الحق في التحرك الوطني والقومي. ولقد تعددت الأشكال التي كان يقوم عليها مثل هذا العمل التنسيقي، بل الأكثر من تنسيقي. لقد كان ممكناً في زمن عبد الناصر وبعده ان تقدم خيوط عريضة للتنسيق بين اكثر من جهة. ففي فترة كان التنسيق السياسي بين مصر والمملكة العربية السعودية ودمشق مظلة بل اكثر من مظلة للعمل الفلسطيني. وقد كان هذا التوافق بين جهات عديدة يشكل غطاء احادياً يتمثل بشخصية استثنائية كالرئيس جمال عبد الناصر او الملك عبدالله بن عبد العزيز او غيرهما من العقلاء القادرين، كالرئيس حافظ الأسد، هذه وفي فترة من الفترات لعب الرئيس السادات ثم الرئيس حسني مبارك دور الثقل الداعم للاستقرار العام في المنطقة. وثالوث مصر المملكة العربية السعودية وسوريا في فترات أخرى كان له في المشرق العربي على الاقل، فضل المساند او المترفق ببعض النظم العربية الأخرى، كالنظام اللبناني المتميز بديموقراطية شبه غربية. ذلك النظام العربي المثلث الأضلاع، كان اول المفيدين منه لبنان الديموقراطي في رسالة الانفتاح الديموقراطي ما بين اتجاهته الفكرية وطوائفه ومذاهبه. نحن اللبنانيين في مفاخرتنا للغير بالديموقراطية التي احببناها دائماً، كثيراً ما ننسى ان هذا الديموقراطية ما كان يمكنها ان تستمر بايجابياتها الداخلية والخارجية، لولا ان جداراً من الأمان حققه وجود نظام عربي مثلث الأضلاع، اعطى المنطقة امكان تحمل نتائج اللعبة الديموقراطية اللبنانية دون التسبب بخفقات وانهيارات خارج لبنان وداخله، ربما تسببت له بعدوانات خارجية عليه من اسرائيل او غيرها. ان اللبنانيين كثيراً ما يغالون في قدرة نظامهم الديموقراطي على العطاء الإيجابي لشعبهم ولشعوبهم في كل ظرف، ودون اعتبار لاي حساب آخر، ولكن واقع الأمر هو غير ذلك. فلولا وجود نظام عربي يجمع بين بعض دول المنطقة في تحالفات او تفاهمات، لكانت لعبة الحرية اللبنانية على الأغلب غير ممكنة العمل بسلامة بين اطرافها الداخلية ومع الخارج المحلي والدولي بدءاً باسرائيل. فالديموقراطية اللبنانية كانت ولا تزال بحاجة دائماً الى وجود نظام عربي تكون فيه سوريا ومصر والسعودية منسقة في ما بينها على الأقل لتأمين حد ادنى من السلامة الداخلية والخارجية لحركة الديموقراطية اللبنانية. انه من السذاجة، الفصل بين حركة الديموقراطية اللبنانية الداخلية في لبنان والحاجة العربية العليا الى نطاق ضمان يحققه تفاهم دول عربية في المنطقة، كمصر والسعودية على حماية نظام الحريات في لبنان من اطماع اسرائيل او غيرها من اعداء العروبة والحريات. ان خلو المنطقة من هذا النوع من التفكير او على الأرجح تراجعه كان ضربة قوية للعروبة، كان لبنان بعد فلسطين في طليعة دافعي ثمنه. ومنذ ايام عبد الرحمن عزام، اول امين عام لجامعة الدول العربية، كانت النخبة السياسية العربية ومنها المصريون والسعوديون واللبنانيون والفلسطينيون المأزومون مصيرياً قبل نكبتهم عام 1948، قد اجتمعوا في مصر واصدروا ما يسمى بروتوكول الإسكندرية. وفي ارشيف جامعة الدول العربية الذي عاد عمرو موسى الى مراجعته مؤخراً بمناسبة الأزمة اللبنانية، انه في احدى جلسات التأسيس للجامعة قال احد مندوبي الحكومات العربية: الآن وقد اقتربنا الى نهاية جلساتنا التأسيسية، هل لنا ان نفكر بصوت عال ونضع مؤشراً لنجاحنا نقيس به سلامة الانطلاقة لهذه المؤسسة. ويقول نص مدون في حوارات جامعة الدول العربية: ان مندوبي الدول وكانوا خمسة، بينهم المندوب الفلسطيني موسى العلي ورياض الصلح عن لبنان، اتفقوا على ان مقياس الجامعة في الفشل او النجاح على المدى القريب هو: لبنان هل ينجح ميثاقه الوطني وفلسطين هل تقوم فيها حكومة عربية مكرسة تتولى الكلام رسمياً باسم عرب فلسطين!. وقائع هذه الجلسة العائدة بتاريخها الى الأيام التي كانت الجهات العربية المشاركة خمس دول فقط، ثم سبع، اتفق الحضور على ان نجاح الجامعة او فشلها هو بالدرجة الأولى رمزيتان؛ اللبنانية والفلسطينية، بهما يقاس نجاح العمل العربي المشترك. كلمة اخيرة هي ان النظام العربي بحاجة الى نجاح في لبنان، لا لأن لبنان وطن يستحق ان يؤيد العرب قيامه ودوره فقط، بل لأن ما يعاني منه لبنان من صعوبات هو صورة مظهرة عن مصاعب واخطار يعانيها عرب آخرون في اكثر من بلد عربي، والفشل فيه يدفع ثمنه الكثير من البلدان العربية التي قد لا تكون واعية مثله الى ايجابيات كثيرة يمكن ان يعطيها اياه نظام مشترك عربي وقوي ومتطور لا غنى عنه لاحد، لا للكبير ولا للصغير. واذا كان لبنان الآن في واجهة المخاطر، فان غيره ايضاً مهدد هنا وهناك. ولعلها صحوة عربية مطلوبة على ضرورة تقوية النظام العربي الذي بدونه سوف تكثر اللبنانات في العالم العربي بالمعاني السلبية التي نعيشها اليوم في لبنان والتي هي قابلة للظهور في الكثير من البلدان العربية. النظام العربي السليم والمشترك، هل نحن جميعاً حكومات ونخباً واعون حتماً للتداعيات السيئة المحتملة هنا وهناك، والناشئة عن اوطان يقاسي كل واحد منها ما يقاسي دون معاونة له من النظام العربي المشترك، المفترض ان يكون قد ولد ونما منذ تأسيس جامعة الدول العربية بالتعاون مع مصر والسعودية ودول الهلال الخصيب أيضاً!.