في لبنان قبل غيره من بلدان العرب، حنين الى تلك الايام الخوالي التي كان فيها بعض العرب اللبنانويون يكادون من فرط التعاطف مع الوطن الصغير والثقة به، يمتحنون سلامة فقههم السياسي كله، وصحة نهجهم القومي بدرجة تفهمهم الايجابي لهذا القطر الصغير حجماً والمختلف تكويناً، الغني بالخصوصيات، المتشح بذلك الزي الفكري المميز مثير الاعجاب لدى كل نهضوي عربي وكل سياسي محاط بين قومه بالتقدير في المشرق والمغرب من ديار العرب، هو لبنان مستدعي التخصص والتثقف عند هواة ومحترفين بخصوصيات القطر العربي صغير الحجم تعددي الدين والطائفة والمذهب والثقافة، نصف عدد بنيه في أرضه، ونصفهم في المهاجر والقارات القريبة والبعيدة. اللبنانويون هؤلاء في البلاد العربية والاجنبية، المضاربون في صدق اللبنانية على اللبنانويين غير اللبنانيين، المهتمون بشؤونه عن هوى والتزام بغير تكليف، واصحاب البرامج له من غير علمه، سواء من العرب وغير العرب، ليسوا كلهم من طبقة واحدة، وليسوا كلهم من منهج واحد، ولا من درجة واحدة من الانفتاح عليه أو التخصص به، ولا من مستوى واحد من حبه أو التعاطف معه أو مجرد العلم به، ولكنهم في اهتمامهم بالشأن اللبناني متساوون. وليس شرطاً المكان في هذا النموذج من الناس الموجود في الغرب وفي الشرق وفي بعض البيئات المحددة، وفي البلاد العربية في شكل أوسع. يسافر اللبناني الى الخارج العربي أو الدولي، وكثيراً ما يلاحظ عند القوم الذين ينزل بينهم انطباعات متعددة، بل أحياناً متناقضة عمّا هو لبنان ومن هم اللبنانيون، ولكن يأنس عادة بدرجة الاهتمام او بالمعرفة بوطنه الصغير فهي أكثر مما كان يظن او يتصور، وأكثر خاصة مما يستحق حجمه الجغرافي والسكاني. واللبنانيون هؤلاء، ليسوا بالطبع دائماً متشابهين في تشخيصهم لما هو لبنان، فمنهم من يتصور لبنان على انه بلد شرقي او غربي، أو لا شرقي ولا غربي، ومنهم من يأخذ عليه وفرة المشاكل التي يرتبط بها اسمه، ومنهم من ينظرون اليه على انه بلد من هذا الدين أو ذاك، وأحياناً أنه بلد فاجأهم بما لم يكونوا يتصورون، ولكن لا بد من الاعتراف بأن له رغم ذلك كله جمهوراً من الاهتمام به لأسباب متناقضة، فالبعض الآن يهتم به من زاوية أنه جار لإسرائيل ذو بأس وحقوق، وبعض ينظر اليه على انه مظلوم من آخرين بعيدين أو قريبين. في الماضي كان مظنون عنه من البعض انه سياحي، واليوم هو مظنون عنه أنه عسكري مقاوم، وفي الامر مبالغة. هذه اللبنانوية تغيرت مع الايام في نظرتها الى ماهيتها وهويتها، والاعلام العالمي حولها تكاثف مع الايام، ولكنه تباعد أيضاً، فالذين يسمعون بلبنان قد كثروا، وإن كانوا قد تباعدوا بينهم في ما هو لبنان ومن هو لبنان ومن هم اللبنانيون وماذا يريدون. والصورة الاسوأ عنهم في الخارج هي تلك التي تصورهم كبلدان مفطورة على الحرب الداخلية والتناحر كالصرب والكروات والجبل الاسود في ماضي الزمان. ويقول احد المستشرقين البريطانيين ان اللبنانيين، وإن كانوا شرقيين وغربيين، إلا أنهم أقرب ما يكونون شبهاً باليوغوسلاف والكروات والبلغار، بمعنى ان الدين عندهم محرك بالسياسات والدنيويات. اللبنانوية هي صفة يمكن اطلاقها على كل انسان مشدود لاسباب عرقية او دينية او ثقافية، لاعطاء وطن اسمه لبنان وشعبه اهتماماً خاصاً يفوق حجمه، إما بفرادة وخصائص تميزه عن محيط واسع هو فيه، أو بصفات معروفة عن مجتمعه من حيث انتسابه. واللبنانوي هو المهتم بمصير هوية هي الهوية اللبنانية الجامعة لشعب معين هو شعب لبنان، تعددت فيه الثقافات والطوائف وربما اللغات وطريقة العيش، واستمر يحرص على كيان له ثقافي واجتماعي وسياسي يريد له ان يدوم. واللبنانوي هو من هوى واستحسن وعمل بطريقة عيش مختلط، اسلامي مسيحي، شرقي غربي، يريد ان ينمو ويتطور وان يكون فاعلاً ذا أثر فيه ومشاركة. واللبنانوي هو من آمن انه من الآن الى مستقبل منظور، سيظل مطلوباً منه بشكل خاص ان يتطور لبنان في اطار كيان خاص به مفتوح على الهوية الوطنية اللبنانية القائمة والسيدة وعلى العروبة. هل اصبحت العروبة عند اللبنانيين، كما تروج الاوساط المعادية للعرب، قراءة في كتاب قديم؟ وهل اعطاء جامعة الدول العربية دوراً في زمن عمرو موسى في العمل على قيامة لبنان، هو تحميل للمؤسسة العربية التاريخية فوق طاقتها في الوقت الذي اصبح فيه المواطن العربي العادي، بدءاً بلبنان، يردد في شبه يأس: ما مضى مضى، ولك الساعة التي انت فيها. ان العكس، كما تبرهن الوقائع هو الصحيح. ففي لبنان مثل غيره واكثر من بعض الوجوه، يستمر تشبث رسمي وشعبي بروح الايام التي كان فيها الناس يمتحنون فيها سلامة عقلهم السياسي بدرجة تفهمهم للروابط التي تجمع بين لبنان والعرب، وبين لبنان وكل بلد عربي على حدة، بل ان اللبنانيين في غالبهم متمسكون باصرار، بذلك الزي الفكري العروبي الذي يقيس صوابية الخط السياسي داخل كل قطر، وفي لبنان خاصة، بالتمسك بالخط العربي كمقياس على سلامة الاتجاه. لا ترتاح الاكثرية من اللبنانيين الى تلك القلة منهم التي تستهين بالماضي من العلاقات اللبنانية العربية، كملهم للتصرفات في الحاضر والمستقبل، خاصة بعد ان كثر بين اللبنانيين عدد القراء منهم للكتب الغربية المتكاثرة التي تطعن بتصور الماضي والحاضر كعالمين منفصلين، دون الفطنة الى ان المستقبل كثيراً ما يكون "ساكناً" في الماضي، والماضي كثيراً ما يكون مشروع المستقبل. قد تكون العولمة، التي يكثر الحديث عنها كخطر في بعض الادبيات، خيراً لوطن كلبنان، اذا هو واجهها كجزء عضوي من عالمه العربي. وكما قال بعضهم، لو أن العروبة غير موجودة، لكان على اللبنانيين ان يعملوا على ايجادها. رغم ميل العقائديين والمثقفين العرب الى الحديث عن الوطن العربي وكأنه واقع قائم، لا حلم يتطلب الملاحقة، ينزلق اللسان والقلم العربيان بوعي وغير وعي الى مصطلح "العالم العربي" مما يشكل بالفعل ظاهرة ذات خصوصية تستحق الوقوف عندها، فقليلة هي الاوطان التي تطلق عليها كلمة العالم، لعلها العولمة الحميدة التي يحتاجها دون غيرها هذا الجزء من العالم العربي الاسلامي. ولذلك النعت أسباب عديدة، منها انتشار العرب على قارتين، وكون المنطقة مصدر الاسلام واليهود والمسيحية، وتعدد الاعراق والاثنيات والديانات بين ابنائها، وكونها ساحة عاصرت كل حضارات التاريخ القديم والحديث. وقبل ان تجري على لسان الناس كلمة العالم الانغلوساكسوري والفرنكوفوني والجرماني والاصفر، كانت كلمة العالم العربي قد اخذت مكانها منذ ايام العثمانية، راسمةً حدوداً واضحة بينها وبين غيرها، مثيرة الاهتمام والاطماع عند غيرها، فاتحة المجالات والادوار لكل بلد من بلدانها، باضافة صفة عربي على نفسه، كبر الصغير ولمع المغمور وتوهج المطموس، وتصدر الطرفين، فالمسلم العربي كبر مكانه في الاسلام بعروبيته، والمسيحي العربي كبر مكانه في المسيحية بعروبته، واليهودي العربي انفتح بوجهه المجال للاستعصاء على الصهيونية بعروبته. من قال أن الاوطان الصغيرة كلبنان مثلاً، منذورة بأن تكون مهملة دائماً، مأكولة الحقوق في هذا العالم، كالسمك الصغير في البحار، يأكله السمك الكبير، يولد ويزول بحكم قانون سيطرة القوي، ولو نسبياً، ولا من يحمي ولا من يحاسب. ذاك عصر مضى وانقضى لكثير من بلدان العالم، كسويسرا التي تصلح لأن تؤخذ مثالاً ، هي محاطة بالدول الممتدة الى داخلها بنسيجها البشري وبلغتها وعاداتها وعقلياتها كفرنسا والمانيا وايطاليا، ومع ذلك، فان سويسرا باقية، لا بحكم القوانين الدولية في هذا العالم فقط، بل بقوة حق الشعب الصغير بالوجود والنمو والقرار الحر، والتمتع وفق مفهومه الخاص بالحضارة. جاء زمن قيل فيه عن لبنان انه سويسرا الشرق. وقد كان للبنان وما يزال، حقوق في البقاء والاستمرار، مثل سويسرا واكثر. وعندما دخلته اسرائيل، عادت فاضطرت للخروج بقوة ارادته، وبقدرة اشقائه العرب من سوريين وفلسطينيين وعرب آخرين وغير عرب من المنحازين له بلا حدود. للبنان امتداد اخوي في محيطه العربي المحب له والغيور عليه بوجه الاجمال، عدا ان للبنان فوق ذلك عصبية تتجاوز شعبه، ناجمة من وجود اللبنانويين من بنيه المغتربين وإخوانه العرب وغير العرب فقط، بل ومن أطراف العالم كله. واللبنانيون هؤلاء، من داخله وخارجه، مستعدون للمزايدة على عدد من اللبنانيين انفسهم. انهم اللبنانيون اهل المعرفة والاختصاص بلبنان الصغير والكبير، والدافعون عنه وشارحوه. ولا شك ان هؤلاء اللبنانويين، وان كانوا عموماً من اهل الغلو والمغالاة، الا ان عصبيتهم للوطن الصغير افادته وتفيده في زمن الشك بالذات، وان اضرت احياناً أخرى بالمغالاة، بدءاً بزجله الشعري والنثري الذي يبلغ احياناً حد المبالغة في الزهو واصباغ العصمة على الوطن الصغير واهله. ولكن مع ذلك، تبقى اللبنانوية سياجاً في الكثير من الحالات لكرامة لبنان وحقوقه، وتكبيراً حميداً لحق لبنان واللبنانية، ذلك الفصيل النابه من ابناء الوطن العربي الكبير. فاللبنانيون كانوا وما زالوا متمسكين بعروبتهم تمسكهم بلبنانيتهم التي يشعرون احياناً بالخوف عليها من خلافات الداخل واهمال الخارج. ان اللبنانوية، أي المزايدة على الوطنية اللبنانية، موجودة عند الكثير من اللبنانيين، لكنها موجودة عند غيرهم ايضاً من محبي لبنان، حتى حدود العصبية، بين العرب والفرنجة، بل ان اللبناني ملوم عند اللبنانويين من اهله وخارجه، بعدم العصبية لوطنه بالمقدار الذي يستحق ويريدون. تلقى انت اللبناني في سفراتك، هذا العربي او ذاك، كما تلقى الفرنسي والبلجبكي والبرازيلي والاميركي الشمالي والجنوبي، فتجده لبنانوياً، يزايد عليك في اللبنانية، فلا تجد وسيلة لشكره ومكافأته. لا شك ان هذه اللبنانوية، وان لم تخل من توتر وعصبية، ظاهرة حب تفوق احياناً ما يريده اللبناني نفسه، وكأن اللبنانوي خارج لبنان يزايد على اللبناني باللبنانوية، وعلى لسانه قول الشاعر: كونوا كما شئتم فأنا ذلك الخلّ! وقد يفاجأ اللبناني احياناً، عندما يسمع لبنانوياً في اميركا او اوروبا او بلد عربي، يطالبه بأن يمضي في العصبية للبنان الى ما يشاء، واللبنانيون له بالكامل، شاء او لم يشأ، عرف او لم يعرف.