أي مستقبل ينتظر لبنان، وأي أفق يلوح في محيطه العربي؟.من يدفع بالمنطقة نحو مزيد من التأزم ومن يقذف بها إلى تخوم الهاوية؟. سريعة هي التطورات من حولنا، ومتعاظمة هي تداعياتها وعواقبها.لا تحتاج قراءة ما يدور إلى كثير جهد أو عناء. ويا ترى كم أضحينا نحن العرب قريبين من آمالنا، استناداً إلى المشهد الذي بات واضحاً لا يقبل التأويل؟. أو دعونا نقول كم هو مقدار تأثيرنا في لوحة الأحداث الماثلة أمامنا؟.وبعد ذلك كله، لنتساءل جميعاً عن المصير، وعن اليوم الآتي على أجنحة الصمت والسلبية والجلوس في الركن البعيد؟. وعلى نحو مباشر، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الذي ينتظره العرب كي ينهضوا بدورهم على أتم وجه حيال لبنان، البلد الذي أثبتت كل التجارب بأنه يحتل موقع القلب من أمنهم القومي؟. أو لم يعد كافياً كل هذا التشرذم وكل هذا الوجل وغياب الفعل؟.ولماذا يسبق بعض الإعلام الأوروبي مثيله العربي في مواكبة تطورات الحدث اللبناني وتحليلها، والخروج حيالها باستنتاجات ومناشدات للمجتمع الدولي؟. وبحالهم هذه، هل ابتعد العرب عن لبنان أم عن ذاتهم القومية، أم عن الأمرين معاً؟. ولمصلحة من حدث كل ذلك؟. ومن غير مزيد إطالة في التساؤلات، يمكن القول إن إسرائيل قد نجحت في استثمار عدوانها، وقامت باستغلال جريمة اغتيال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية للدفع باتجاه المزيد من توتير الأوضاع، وخلق حالة من الاحتقان في علاقات لبنان الداخلية، وتلك التي تربطه بمحيطه العربي. وفي قلب صريح لحقائق الأمور، تقمصت إسرائيل دور الضحية، أو دور المعرَض للتهديد والخطر، وتحركت دبلوماسيتها وآلتها الإعلامية لتشحن الأجواء شرقاً وغرباً، موجهة المزيد من الضغوط نحو الساحة اللبنانية، ذات المناخ المحتقن في الأصل بفعل عوامل عديدة، في مقدمتها العدوان الإسرائيلي المستمر منذ نصف قرن.وفي حقيقة الأمر، هناك منذ خمسة عقود حرب مفتوح على لبنان وليس انطلاقا منه، فهذا هو كمال عدوان قد تم اغتياله، مع رفيقيه كمال ناصر وأبويوسف النجار، في قلب بيروت، في نيسان أبريل من العام 1973، في عملية دموية نفذها الموساد الإسرائيلي، وأشرف عليها كل من أيهود باراك ( وزير الدفاع الحالي) وأمنون شاحاك. وفي أيار مايو من العام 2006، اغتال جهاز الموساد في قلب صيدا القياديين في حركة الجهاد الإسلامي، الأخوين محمود ونضال المجذوب.وقد أفاد القضاء اللبناني، في كانون الثاني يناير الماضي، بأن ضابط استخبارات إسرائيلي دخل لبنان عبر الحدود الجنوبية، وتوجه إلى صيدا حيث جهّز عبوة ناسفة استهدفت الأخوين مجذوب. ويشير القضاء إلى أن الضابط الإسرائيلي، بعد تنفيذ العملية، انتقل في غضون 24ساعة إلى شاطئ مدينة جبيل اللبنانية، حيث أخذته من هناك قوة كوماندوس إسرائيلية. وبين عمليتي بيروت وصيدا، كانت هناك عملية اغتيال نفذها الطيران الإسرائيلي في عمق الجنوب اللبناني، استهدفت الأمين العام السابق للحزب السيد عباس الموسوي في شباط فبراير من العام 1992.هذا فضلاً عن سلسلة طويلة من جرائم الموساد داخل الأراضي اللبنانية، استطاع الأمن اللبناني الكشف عن بعض من خيوطها. وحرب إسرائيل المفتوحة على لبنان تتجلى أيضاً في احتلالها المستمر لمزارعه وأراضيه، وسرقتها مياهه على نحو صريح ومعلن، وتعدي جنودها وبوارجها على الفلاحين والصيادين اللبنانيين، وخطفها المدنيين من القرى الحدودية، وانتهاكها شبه اليومي للمجال الجوي اللبناني، وخرقها مرات عدة لحاجز الصوت وترويعها للسكان الآمنين.هذا فضلاً عن حروبها الدورية المدمرة على لبنان، وذلك منذ احتلالها سبع قرى جنوبية في العام 1948وحتى عدوان تموز عام 2006.ما الذي يا ترى يمكن أن تضيفه إسرائيل فوق جرائمها هذه؟ وأي إعلام مضلل هذا الذي بمقدوره وضع الجلاد في موقع الضحية، والادعاء بأن الخطر ينبع من لبنان وليس من المتربصين به؟. ثم هل بيننا نحن العرب اليوم من بات أسيراً للدعاية الإسرائيلية، الفجة والمقرفة؟. أجل، لقد شكلت جريمة اغتيال عماد مغنية خروجاً على قواعد اللعبة، لكونها وقعت خارج الأراضي اللبنانية.بيد أن النقاش يجب أن ينطلق من الجريمة ذاتها، بما هي عدوان وخرقاً لسيادة دولة عربية.وهنا، لا يصح القفز مباشرة على الحدث إلى حيث مقاربة تداعياته الفعلية أو المحتملة، وهذا ما يفترض أن يلحظه الخطاب العربي ويتحرك على ضوئه،لأن خلاف ذلك هو تحديداً ما تروج له إسرائيل وتسعى إليه. وبعد ذلك كله، يمكن القول إن منطق لكل فعل ردة فعل، تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، يمكن افتراض تحققه، نظرياً على الأقل.وحتى في حال حدث ذلك، فلن نكون بالضرورة بصدد حرب مفتوحة متماثلة في أدواتها وأشكالها.وكما سبق وأشرنا، فالحرب المفتوحة معتمدة من قبل إسرائيل وسارية المفعول منذ نصف قرن. إن ما قامت به إسرائيل من إجراءات احترازية واسعة في الداخل والخارج قد حدث في جزء منه على خلفية الخشية من ردود فعل محتملة، وهذا أمر بديهي على أية حال. بيد أن لهذه الإجراءات وجه آخر غير معلن، يتمثل في سعي تل أبيب لإشاعة مناخ عام من التوتر المفتعل بغية تحقيق أهداف وغايات بعيدة المدى. من هذه الأهداف، الدفع بمزيد من القوات والآليات الإسرائيلية إلى الحدود مع لبنان، وإجراء المزيد من التدريبات الممهدة للعدوان، والإيحاء بسلامة الردع الإسرائيلي الذي سقط في عدوان تموز، ومن ثم محاولة إعادة الهيبة المفقودة إلى جيشها.وبدا هذا الأمر واضحاً منذ اليوم الأول، وقد دخلت فيه - كما تشير الصحافة الإسرائيلية - قضية الخصومات المحلية، والمنافسة بين الشخصيات والأحزاب، وسعي البعض، وخاصة أيهود باراك للظهور بمظهر الرجل القوي، لا سيما بعد أن اعتبره تقرير فينوغراد أحد المعنيين بما يسمى بإخفاقات عدوان تموز. الهدف الآخر للمناخ الذي تشيعه تل أبيب، يتمثل في إرباك قوات الأممالمتحدة العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل)، فإسرائيل أدركت مبكراً بأن وجود هذه القوات من شأنه تقليص مرونة حركتها السياسية والعسكرية في أي عدوان جديد تخطط لشنه على الأراضي اللبنانية.وربما أرادت إسرائيل اليوم أن تقول ضمناً للدول التي أرسلت هذه القوات بأن الوضع خطير و"قريب من الانفجار"، ومن الأفضل عودة الجنود إلى دولهم.وفي هذا الإطار أتت الإشاعة التي صدرت في تل أبيب وقالت بنية أسبانيا سحب وحدتها العاملة في الجنوب اللبناني، وهو ما سارع الأسبان لنفيه.وكانت قضية القبول بقوات اليونيفيل، وفق القرار 1701، موضع خلاف منذ البدء بين المؤسسة الأمنية ووزارة الخارجية الإسرائيلية، إذ أن غالبية قيادة الجيش الإسرائيلي لم تكن راضية عن وجود هذه القوات، وفق آلية الاشتباك التي حددها القرار 1701، باعتبارها آلية "مبهمة وغير ذات فاعلية". ويتمثل الهدف الإسرائيلي الثالث في الدفع باتجاه زيادة الاحتقان في الساحة الداخلية اللبنانية، ورفع منسوب التوتر فيها. وهناك بعدان للمسعى الإسرائيلي هذا، بعد تكتيكي يتجسد في تعطيل مشروع الوفاق والمصالحة الوطنية بين الفرقاء اللبنانيين، وزيادة التجاذبات بينهم. وبعد استراتيجي، يتجسد في الرهان على جعل الساحة الداخلية اللبنانية الخاصرة الرخوة التي تمثل نقطة ضعف لبنان في مواجهته لأي عدوان جديد تشنه إسرائيل.وهذه إحدى خلاصات عدوان تموز،التي ما زال يتحدث عنها الإسرائيليون، ذلك أن تهجير أكثر من مليون لبناني من قراهم ومدنهم لم يؤثر في مسار الحرب لسبب بسيط هو أن بقية اللبنانيين احتضنوا المهجرين في منازلهم وأحيائهم، ووفروا لهم ما استطاعوا من مستلزمات العيش والإقامة.ولهذا، فالرهان الإسرائيلي على ضرب الوحدة الوطنية اللبنانية هو رهان ذو دلالات وأبعاد عميقة المدى. الهدف الإسرائيلي الرابع، من إشاعة مناخ التوتر المفتعل، يتمثل في ضرب علاقات لبنان بمحيطه العربي،وتسميم مقاربة جامعة الدول العربية الخاصة بالمصالحة الوطنية اللبنانية، وزيادة منسوب التجاذبات في الصف العربي. إن لبنان هو اليوم في المنعطف، وعلى العرب أن لا يدعوه يغدو ضحية لآلة القتل والإجرام الإسرائيلي، وأن لا يسمحوا، في الوقت نفسه، لحملة التضليل والأكاذيب التي تمارسها إسرائيل بأن تحول بينهم وبين التزامهم القومي تجاه بلد شقيق، لم يتعاف بعد من حرب عدوانية، دمرت مساكنه وبنيته التحتية. إن تجربة نصف قرن من الحياة السياسية العربية قد أثبتت للجميع بأن استقرار لبنان هو جزء أصيل من استقرار العرب.وهذه حقيقة يجب أن لا تضيع في غبار التجاذبات والحسابات المتغيرة. وعلى الأقطار العربية أن تؤكد وقوفها على مسافة واحدة من كافة الفرقاء اللبنانيين، وأن تسخر جهودها لانجاز المصالحة بينهم، وعليها أن تدعم مسيرة البناء والإعمار،والنهوض بالدولة الجامعة، وأن تدفع حثيثاً باتجاه إعادة بناء الدور والمرافق التي ما زالت مدمرة منذ عدوان تموز، إذ ليس من المعقول في شيء أن يبقى الناس خارج مساكنهم طوال هذه الفترة.