كان ترحيبه مختلفا! فلم ندلف إلى دار الضيافة بل إلى مكتبته، وبيته جله مكتبة. بادرني بقوله: يامحمد هناك أمران لاينبغي للمرء أن يقصر فيهما بل يكثر منهما: حسن العمل والتزود للآخرة. وأمرين يحتاج إليهما كل من احتاج إلى الحياة: المال والأدب. فقلت: أما المال فيكفيني منه مايكفل لي كرم العيش، أما الأدب فهو مادفعني لطرق بابك، وشغلك عن اشتغالك. لم أستطع أن أميز مابين يديه للوهلة الأولى فقد دلفت من فناء مشمس ضوءه باهر إلى غرفة تملؤها الكتب وبها قنديل يكفي للقراءة، ولكن الغرفة بدت لي ذات ظلمة بقنديلها إلى أن مضى بعض الوقت تمكنت فيه عيناي من التكيف. أدركت بعدها أنه كان يقلب كليلة ودمنة. فقلت: كليلة ودمنة ياابن المقفع؟! فقال: نعم يابن القويز كليلة ودمنة! فهذا كتاب مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي التمسوا بها أبلغ مايجدون من القول، في النحو الذي أرادوا. فقلت: وكيف تسنى لهم ذلك؟ فقال: لخصوا فيه من بليغ الكلام ومتقنه على أفواه الطير والبهائم والسباع. فاجتمع لهم من ذلك أمران: أما هم فوجدوا متصرفاً في القول، وشعابا يأخذون فيها. قاطعته: من دون اعتراض أحد؟! فقال: من سيعترض على ماتقوله الطير والبهائم والسباع؟! كتمتها في نفسي ولم أبدها "أهل زماننا يفعلون ذلك"، ثم قلت: أما هو؟! فقال: أما هو فجمع لهواً وحكمة. فاجتباه الحكماء لحكمته، والسخفاء لِلَهوه. أما المتعلمون من الأحداث وغيرهم فنشطوا لعلمه.. فقلت: ولكني لست حدثا! فقال: إذاً أنت صاحب تجربة؟ فقلت: نعم، وإن كنت أخجل أن أذكرها أمام أدبك. فقال: هات مالديك. كنت قد جمعت له ما كتبته في البيت العربي ومالم يتسع له صدر البيت العربي على لسان الطيور والبهائم والسباع فقدمتها للمعلم المربي الفاضل عبد الله بن المقفع. ولم أشأ أن أنتظر رده من دون أن أستفيد من مكتبته فأخذت كتاب كليلة ودمنة، وأنا أستحضر قول المعلم "فليس ينبغي أن يجاوز شيئاً إلى غيره حتى يحكمه ويتثبت فيه وفي قراءته وإحكامه". تمنيت لو أنني أخبرت ابن المقفع أن كتابه تُرجم إلى جميع اللغات الحية وبعض اللغات الميتة.