السمة الأساسية التي رسخت في أذهان مُتلقي الشعر ونُقاده على حد سواء عن شعر المناسبات على مدى سنوات طويلة هي سمة التكلف والتصنع، ذلك أن الشاعر حينما يتعمد نظم قصيدة معينة ليلقيها في مناسبة ما، فمن الطبيعي - في أغلب الأحيان - أن تأتي تلك القصيدة باردة لا تحمل روح الشعر ولا صدقه، ناهيك عن كون تلك القصيدة تُكتب من قبل شاعر واحد لإلقائها في مناسبة تتكرر كل عام. ومن الشعراء الشعبيين القلائل الذين استطاعوا تغيير هذا الاعتقاد الراسخ الشاعر الكبير خلف بن هذال العتيبي، لاسيما في قصيدته التي يُلقيها كل عام في مهرجان الجنادرية، فعلى الرغم من مرور اثنين وعشرين عاماً هي عمر المهرجان، لا تزال هذه القصيدة تحظى باهتمام المتلقين ومتابعتهم.. والسؤال الصغير الذي أود طرحه عن شاعرنا الكبير وقصيدته: لماذا لم تفقد قصيدة الجنادرية اهتمام المتلقي بها كغيرها من قصائد المناسبات؟ قد يُرجع البعض ذلك إلى طبيعة المناسبة التي تُلقى فيها تلك القصيدة، وقد يرى البعض في الإلقاء الحماسي الذي يمتاز به خلف بن هذال عاملاً رئيسياً في جذب المتلقين، وقد يرى البعض غير ذلك، ولكن الشاعر نفسه يُدرك بأنه يمتلك إلى جانب ما ذُكر مميزات أخرى أتاحت له كل هذا النجاح، من بينها حرصه على تناول الأحداث التي تجري، ومعالجتها في قصيدته، فقد طُلب من الشاعر في أحد الحوارات التي أجريت معه أن يبدي رأيه حول القول الشائع بأن براعته في الإلقاء هي التي ساعدته على الوصول إلى ما وصل إليه، فكان جوابه: "هذا إجحاف وظلم فطريقتي في الإلقاء عفوية لا أتصنع فيها.. والقصيدة لا يمكن أن يخدمها الإلقاء سواء في محفل أو غيره إذا لم يصاحبها جزالة اللفظ وقوة التعبير.. ولو كان الإلقاء لوحده يكفي فلا داعي للقصيدة ولا داعي لأن يبحث الإنسان عن المعاني والصور والأحداث والمواقف.." فكما نلاحظ من هذه الإجابة فالشاعر يشير إشارة صريحة إلى ضرورة البحث عن "المعاني والصور والأحداث والمواقف"، النقطة الأخيرة التي أشار إليها الشاعر (البحث عن الأحداث والمواقف) قد شكلت عاملاً مهماً في نجاح قصيدة المهرجان، فالمتابع لهذه القصيدة يلحظ اهتمام الشاعر بتناول العديد من الأحداث التي تجري في الداخل والخارج، ولو تأملنا القصائد التي ألقاها الشاعر في الأربع سنوات الماضية في مهرجان الجنادرية، وهي على التوالي ( 19و 10و21، و22) لوجدنا بأنه قد تطرق لأحداث وقضايا متعددة، ففي مهرجان الجنادرية (19) ركز الشاعر بصورة كبيرة على قضية تعاني منها المملكة كما تعاني منها الكثير من دول العالم، وهي قضية (الإرهاب)، يقول الشاعر في بعض أبيات تلك القصيدة: على من روّع الصيام خزي ولعنة تخزيه تموت الشجرة اللي من عروق الجذع مقطوعه تموت أطفال وتموت النسا فعل طغى طاغيه عسى من راعهم رب الفلق يبلاه ويروعه ملغّمة المصاحف مالها بين الرجال وجيه هبت والله وجيه للهوى وابليس مركوعه فكما نلاحظ من هذه الأبيات فالشاعر يشير إلى أحداث الإرهاب التي جرت في الرياض خلال شهر رمضان المبارك.. وقد تحدث كذلك في المهرجان الذي تلا هذا المهرجان (20) عن الإرهاب، وعن الإرهابيين الذين يقومون بأعمالهم التخريبية تحت ستار الدين، ونبّه إلى مسؤولية الآباء الكبيرة تجاه أبنائهم، يقول خلف بن هذال: قامت أرباب السوابق تستّر بالعباه عن عباة الدين يخسون هافين الذمم كيفي رب البيت ما يدري إلا عن عشاه هو تعشا؟ هو تغدا على رز ولحم؟ والخطر والموت بين الغرف يطحن رحاه ما وعى في مرقده لو يشرّك له لغم أما في مهرجان الجنادرية (21) فقد تحدث الشاعر - بعد الترحيب بالملك وضيوف المهرجان كالمعتاد - عن دور خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الإسهام في حل قضايا العرب، وقضية فلسطين على وجه الخصوص: تحدث عن قضية جوهرية جمدوها أزمان فراعنة العذاب وبالخراب إبليس مغويها رموها واتركوها المفسدين بسلة النسيان تغط بنوم ما ندري متى الدنيا تصحيها يسومون العرب بديارهم سوء العذاب ألوان عساها للذهاب ويذهب المولى ذراريها يحل ابها ما حل بقوم نوح ساحة الطوفان تساوي بالسفينة بأمر مرسيها ومجريها وفي هذه القصة أيضاً عبّر الشاعر عن حزنه العميق على فقد عدد من قادة الخليج الذين انتقلوا الى رحمة الله في فترات متقاربة: اببعث من فؤادي ما اختزن شوقي من الوجدان على قوم توارت في سنه ماني بناسيها فقدنا بالخليج وبالجزيرة للديار أركان سلاطين تساقط كيف ما نحزن ونبكيها رحل عنا أربعة وبالأربعة عدل وعطا واحسان من الدنيا خلت ولا تخلت عن مباديها فهد وشيوخنا جابر وابن راشد وابن سلطان رجال سطّروا لشعوبها مجد يكفيها وفي آخر مهرجان للجنادرية (22) صوّر لنا الشاعر بلغته الجميلة، وقدرته الفائقة على التصوير الوضع المزري الذي تعيشه العراق، وتحدث أيضاً عن الفتنة الطائفية التي تأججت نيرانها بعد الاحتلال: بالعراق يدور حرب خارج عن طوره امتلت منه المقابر والأسر شردها التعازي والمخازي والبلد مذعوره صاح فيها البوم وسباع اللحم تافدها أمرحت بغداد من سكانها مهجوره خطة ابليس المضلل بالحيل مهددها الوتد دقه "جحا" عادت عليه عصوره ما تزاح ولا تزحزح ورطة وتدها فكنا الله من غثاه وحربته وشروره عرضة المشؤوم دايم ما تحل عقدها وأود أن أشير في ختام هذا الحديث القصير إلى أن عدد أبيات هذه القصائد يتراوح في الغالب بين 60بيتاً و 80بيتاً كما هو الحال في معظم قصائد خلف بن هذال في مهرجان الجنادرية، وهذا يتيح له فرصة أكبر للتعبير عن آرائه ومواقفه من الأحداث التي تجري في هذا العالم الذي لا يكاد يمر فيه يوم دون مرور حدث مهم.