دأبت الدول والشعوب الحية عبر التاريخ أن يكون استشعار الخطر والاستعداد له ضد عدو محتمل من أكبر المحفزات التي تدفع إلى التماسك والبناء والتشييد. واليوم تقوم الدول الناهضة وكذلك الدول التي تنشد النهوض والبقاء بجعل ذلك الأسلوب محركاً ومحفزاً رئيسياً لكل قطاعات الأمة. وعلى أية حال فإن هذه النظرة تقوم على أساس أنه إذا لم يوجد عدو محدد فإنه يمكن خلق عدو حقيقي أو وهمي كما هو حادث هذه الأيام حيث أعقب سقوط المعسكر الشيوعي كعدو للغرب تبني الإسلام كأكبر مهدد للحضارة الغربية. نعم ان استشعار الخطر والاستعداد له أسلوب تأخذ به بعض الدول لتحريك عجلة الإنجاز من جهة وضمان اليقظة والحيطة والاستعداد الدائم والجاهزية عند حدوث خطب أو خطر. ولعلنا ندلل على ذلك من خلال استعراض مجموعة من الأمثلة التي استشعرت الخطر أو أوحت به وكذلك أمثلة أخرى لمن لم يشعر الخطر بصورة عملية. ومن ذلك: أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تخوض حرباً دائمة ضد عدو محدد أو محتمل ذلك للمحافظة على مصالحها أو اقتناص مصالح جديدة حتى ولو كانت من صديق أو حليف إذا اقتضى الأمر ذلك. فديناميكية الحراك الأمريكي يعتمد أسلوب مواجهة التحديات ومن ثم التقييم والتقويم مما يضمن إعطاء أفضل النتائج، فكل تحد يولد منهجاً جديداً قد يخفق وقد ينجح ولكن المحصلة في كل الأحوال مجزية. فهم حريصون على المحصلة النهائية. والنجاح والخسارة هنا نسبية وليست حتمية فما هو ظاهر على أنه خسارة معنوية. قد يخفي خلفه انتصار الغاية. نعم أمريكا خاضت وتخوض سلسلة حروب مستمرة منذ الحرب الأهلية هناك. فأمريكا خاضت الحرب العالمية، وبعدها خاضت حروباً خفية لمنازعة الدول الأوروبية الاستعمارية مراكز نفوذها على الرغم من تحالفها معها بالإضافة إلى خلق بؤر نزاع وشقاق وتدبير انقلابات عسكرية هنا أو هناك خلال أيام الحرب الباردة. ناهيك عن دخول حرب فيتنام وحصار كوبا ومساعدة إسرائيل وحرب البلقان، وأخيراً دخول حرب مفتوحة هي الحرب على الإرهاب وحجة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتي بموجب الأولى احتلت أفغانستان، وبموجب الثانية احتلت العراق. كما تم استخدام الحرب على الإرهاب وسيلة لغاية في نفس من يخطط من خلف الكواليس هناك للاستيلاء على مقدرات الشعوب والأمم الضعيفة. إن التقدم الأمريكي في المجال الاقتصادي والعسكري والعلمي وما يترتب عليها بني على أساس مواجهة التحدي أو الخطر المحدق بالمصالح الأمريكية هنا أو هناك من قبل عدو ظاهر ومعروف وإن لم يكن موجوداً فإنه يتم خلقه وإيجاده حتى وإن كان وهمي. لذلك فإن الدوائر النافذة هناك سواء كانت في مجال المخابرات او الاعلام او غيرها من الدوائر تدق على وتر المصلحة المهددة وبالتالي لا بد من درء الخطر عليها من خلال إجهاض الخطر قبل تبلوره. واليوم وصلوا إلى استخدام العصا السحرية وهي الحرب على الإرهاب الذي يمكن أن يلصق بكل من يتراخى أو يتردد في الوقوف إلى جانبهم والاستجابة لمطالبهم وتوجهاتهم. ناهيك عن التشدق بحقوق الإنسان، والمرأة، والديمقراطية وغيرها من وسائل الضغط. حرص إسرائيل على الجاهزية والاستعداد الدائم لجيشها وقواها الأمنية جاء نتيجة استشعارها للخطر المحدق بها والمتمثل بمطالبة الفلسطينيين بحقوقهم ومؤازرة الشعوب العربية والإسلامية لهم، وعلى الرغم من ضعف المطالب والمؤازرة إلا أن إسرائيل تأخذ كل ذلك على محمل الجد بل أكبر من الجد، وذلك لضمان استمرار الدعم الذي تتلقاه من أمريكا ودول الغرب ويهود الشتات الذين أحكموا قبضتهم على مقدرات شعوب الغرب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن اليقظة والاستعداد الإسرائيلي الدائم موجه إلى تحطيم الخصم من أجل تحقيق المخطط المرسوم والذي يعاد رسمه بعد كل انتصار تحققه على الساحة الاقليمية والعالمية وذلك وفق ما يخدم الأهداف الصهيونية في المنطقة. وهم على أية حال يزاولون أسلوب الكر في الوقت المناسب والتهدئة إذا أصبحت الظروف غير ملائمة. نعم ان اسرائيل لم تهتم بخلق جيش قوي فقط بل جعلت الهدف خلق دولة قوية من خلال جعل عناصر القوة تتناغم وتتكامل في جميع القطاعات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والتعليمية والبحثية والصناعية داخل إسرائيل وخارجها. وهذا ما جعل دولة إسرائيل ذات المساحة الصغيرة وعدد الشعب المحدود ذات إرادة فاعلة على المستوى الاقليمي والعالمي وذلك بمؤازرة يهود الشتات الذين تحتضنهم ويحتضنون مراكز البحث والمال والإعلام والعلاقات العامة والقرار في كثير من الدول المتقدمة خصوصاً في أمريكا. لذلك نجد إسرائيل تستغل كل حدث مهما صغر لصالحها. إن فلسفة درء الخطر قبل وقوعه أصبحت واقع الحال في منهج إسرائيل وسياستها وخير مثال على ذلك تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1980م واغتيال العقول والكفاءات العربية أينما وجدت. ودفع أمريكا إلى المواجهة مع إيران من خلال تضخيم ملفها النووي وشعورها بالتهديد. كما أن عمل إسرائيل الدائم على إجهاض التضامن العربي والاقتصاد العربي والتكامل العربي بواسطة عملائها ومخابراتها أو بواسطة القوى الداعمة لها مثل أمريكا وغيرها ممن يسير في ركب الصهيونية العالمية أليست هذه اليقظة نتيجة استشعار إسرائيل للخطر الذي يمكن أن تتعرض له؟ تنامي القوة العسكرية الإيرانية كان له أهداف استراتيجية توسعية أيام الشاه. وبعد الثورة الإيرانية دخلت إيران في حرب مع العراق مما أدى إلى خسارة كبيرة لكل من الطرفين في المال والعتاد. إلا أن تلك الحرب جعلت الإيرانيين يستشعرون الخطر سواء كان ذلك لدرء خطر حرب أخرى تفرض عليهم من قبل أمريكا أو غيرها من القوى أو من أجل تأمين الثورة الإيرانية خصوصاً أن مشروع تصوير الثورة بالطرق التي جربوها لم ينجح فأصبح لزاماً عليهم إيجاد أنياب وضروس لتلك الثورة تتمثل بقوة عسكرية ذاتية وليست مستوردة وذلك حتى لا يتم التحكم بمدخلات ومخرجات تلك القوة من قبل قوى أخرى. واستشعاراً للخطر لم تكتف إيران بالتسلح بالأسلحة التقليدية فقط بل لجأوا إلى توطين التقنية النووية وبأسلوب فاق كل التوقعات. نعم إن الإيرانيين كغيرهم يريدون أن يكون لهم فصل الخطاب في المنطقة على المدى الطويل وهم سوف يمارسون ذلك من خلال أسلوب الجزرة والعصا ومن التحالفات وذلك مع بعض دول المنطقة أو من خلالها. إن القوة العسكرية الإيرانية ربما تدفع بها إلى مواجهة مع أمريكا أو ربما توقع أمريكا إلى عقد حلف مصالح مع إيران والأسلوب الأخير ليس غريباً بل هو أسلوب محتمل وبالتالي سوف يضيع بين الرجلين الحليف الأقل حظاً من الاستعداد واستشعار الخطر. نعم إن إيران دولة قوية من حيث المساحة وعدد السكان ومن حيث القدرة العسكرية وكذلك من حيث الموارد الاقتصادية. بينما تقابلها على الجانب الثاني من الخليج دول صغيرة قليلة السكان محدودة القدرة العسكرية باستثناء المملكة التي لها وزنها الاستراتيجي وثقلها الاقتصادي ومكانتها الدينية. ولا شك أن هذا الخلل في ميزان القوى سوف يكون له ما بعده إن لم يتم استشعار الخطر والاستعداد له من أي مصدر كان خصوصاً من أولئك الذين يسعون إلى خلط الأوراق على أرض وسماء المنطقة. والله المستعان