لكل جيل اهتمامات يعشقها، وتقاليد يباهي بها، معبراً عن شبابه وفتوته وظهوره وإرادته، ومع تقدم العمر به تبيد هذه التقاليد ويخضع لما يمليه العقل الوادع في هذه المرحلة، ولئن حن إلى شبابه فإنه ينتقد بعض تصرفاته ويأباها في أبنائه حينما يتقمصون تقاليد المعاصرة في زمانهم المختلف عن زمن شبابه، وتظهر هذه التقاليد الشبابية في الملبس والحركة والمقتنيات من وسائل الانتقال والممتلكات الشخصية، وكما نشاهد في زمننا مما يلبس أبناؤنا أو ما يأكلون وقصات شعرهم وعلاقاتهم بغيرهم من الأصدقاء ونحوهم. وهناك مؤثرات ذات سطوة على تفكيرهم من تقليد أو تجمل أو تحد ورفض لما يملى عليهم ممن هم أكبر منهم، وهذه التقاليد رافقت الإنسان منذ تفاعله مع الآخر وستظل ذات دل عليه يخضع لها ويمارس التحدي من أجل عدم التخلي عنها حتى تبدأ قوته البدنية في الميل إلى الوداعة وتقلد مسؤولية التربية. ولقد كانت الفتوة والفروسية في الماضي رمز الشجاعة والإقدام والحمية وهي من الخلق الفاضل مهما اتسمت بألوان الميوعة والترف، وربما كانت الإرادة والتحدي من العوامل المؤثرة في ذلك، فتحتم على من يمارسها الظهور بالمزايا الحسنة لئلا تعكس عليه هذه الممارسات الاتهام بالخنوع والميعة. وكانت تتمثل هذه الممارسات في تصفيف الشعر واسداله وتضفيره. يقول أبو فراس في رثاء أمه التي كانت تتعهد شعره بالرعاية والتضفير: أيا أم الأسير لمن تُرَبَّى إذا مت الذوائبُ والشعور على أن الفترة التي أعنيها بالحديث هنا هي فترة ما قبل المائة عام فأكثر، حين كانت الحياة القروية والبدوية مثار الحركة والحيوية، وأن المدينة كانت تميل إلى الحياة البدوية إذا ما استثنينا مكةوالمدينة وقليلاً من المدن الساحلية. نعم كان شعر الرأس للفتيان مثار الاهتمام والعناية التي لا تتجاوز دهنه بالسمن وتجديله أو تضفيره بعد تسريحه وتنقيته من القمل، هذه العملية التي تعتبر من هواية الأخوات والأمهات أو الزوجات ورفيقات المرعى، هذه الرفقة النقية التي تباهي بها البادية.. وهي عملية تصاحب أيام الفراغ وصفو الأيام، أما في الحروب والصدامات القبلية فإن كثيراً من الفرسان يرسلون شعر رؤوسهم لإخافة الأعداء، وقد أطلق على فريق من إحدى القبائل الشعافلة نسبة إلى جدهم الملقب "أبو شعفلة" حيث انحدر على قبيلة غازية مرسلاً شعره الكثيف مردداً حداءً حربياً حول المعركة إلى صالح قبيلته، وهد الشعر أو ارساله عند المعارك القبلية يحدث للنساء المصاحبات للمحاربين أو المشاهدات للمعارك، فإنهن يرسلن شعورهن ويرددن الشعر الحماسي لإثارة العزائم، ومن ذلك قول الشاعرة: والله لاهد الجدايل واقش عن خدي حياه حتى يجيني علم طايل ربعي مطوعة العصاة ومن تقاليد الفتوة حمل العصا، فقد كان في الماضي يعاب على الرجل أن يسير بدون عصا قال الشاعر: يا ربعنا كيف الولد يمشي بسيبه ما يحسب ان السيب منقود عليه؟ لا طب وادي الخوف ما سبحه يثيبه ما ينقل القالة ولا يرفع يديه أي أن من لا يحمل سلاحاً وأدناه العصا معرض للأخطار من اعتداء الخصوم والثارات وغيرها من الأخطار. والعصي أنواع منها الشون أو النبوت وهي من العصي الغليظة التي تستخدم في المضاربات، ومنها الباكور وهي عصاً رقيقة من الخيزران ويحملها الشيوخ والفتيان الذين آمنوا الخوف لمكانتهم فلا يقدم على إيذائهم أحد خشية العواقب، ولذلك نجد الإعجاب من الفتيات بهؤلاء الفتية الواثقين من أنفسهم المحاطين بحماية معنوية ومكانة اجتماعية، ومن ذلك أن فتاة شاعرة من "غران" قرية بين عسفان وخليص فيما بين مكةالمكرمة ورابغ قالت أبياتاً في فتى في إصبعه خاتم وفي يده باكور: هيَّ عليه غليّم في يده خاتم وباكور لا هي عصا مسلمين ولا تعصوها النصارى ثم تحدد المكان الذي تجول فيه الفتى والمعالم وأصحابها فتقول: من يوم شد المليح اللي من أول في البلد نور اليوم أمسيت يا عيني تهلّين العبارا ثم تبالغ في وصف حزنها ودموعها المسفوحة التي تشبه السيل فتقول: ودمع عيني حدر "وادي غران" وخرب الدور الليلة امسوا هل "البرزات" من سيله فقارا شال "الشبيكة" وهي مطوية بالجص والنور والله يا طيها ما شفت مثله في البيارا ولا بي الاّ بلاد "حميد" و"محمد" و"منصور" اللي يشيلون من غلاتها مال التجارا واحمدك يا اللي جعل من دمع عيني عدما ثور يردونه اهل البكار اللي عليها الوسم دارا وفي الأبيات تمليح واشفاق وتحبب ومبالغة في الحزن على هذا الفتى الذي غادر الحي وتركها حزينة. وقد تناقل الناس هذه الأبيات وعارضها شعراء فقال أحدهم مزيداً في المبالغة: جانا كلام من القبلة وجا للود منشور جانا مع الناس ما جانا على ركب تبارى ان كان دمعك حدار وادي غران وخرب الدور من عندنا شال مطويات من صم الحجارا شوفي بعيني تلال النخل مثل البل مقطور وشهودها اثنين كاد الكل منهم ما استخارا وانتم عليهم كما هم لا غياب ولا هم حضور ما احد مكذبك فيما قلت يا ظبي العفارا