تختلف المقابلات الصحافية تبعاً لاختلاف ضيوفها واهتماماتهم ومحصلاتهم المعلوماتية وإنتماءاتهم المعرفية - وتبعاً لاقتدار الصحافي المحاور ومهارته في التقاط ما يستجد من مسائل مهمة يذكرها له ضيفه أثناء مقابلته إياه ما يمكن به تصنيف مدى جدواها وجديتها وفائدتها بالنسبة لقارئها بحيث تظهر قيمتها كوثيفة يستدل بها. والحوار فن ومهارة تنميهما متابعة مستمرة وإنصات متواصل وقراءة معرفية واعية تستند إلى تأمل كامل وخبرة وافية بالشخصية التي يختارها الصحافي. ومعظم الشخصيات التي يتحاور معها الصحافي تفرز بالتأكيد اختلاف حوار عن غيره ما يشعر معه الضيف برغبته في التنوير والعطاء والوقوف المتأني ويسترخص أيضاً ما يمر من وقته المهم ويعطل أعماله إذا ما أدرك ان ما يقضيه من وقت مع صحافي ماهر هو بأهمية ما ينتجه ويعمله ما يجعله يسترخي في بوحه. فالصحافي الذي يستثير في ضيفه تحفظه - بإدراكه لاهتماماته بعيداً عن جهالة في منطق التعبير عنها أو تزييفها أو الخطأ في استيعابها، ولا يلجأ إلى المجاملة والتنميق أو يضطر إلى الرشوة المحرمة شرعياً وإعلامياً - يكبر في نظر شخصيته الحوارية فتراه جديراً بوقتها الثمين. وتختلف المقابلة والحوار الصحافي باختلاف مجالاته فحوار شخصية إبداعية أو أخرى مهتمة بالثقافة غير حوار شخصية فنية أو رياضية أو سياسية أو اقتصادية أو تعليمية أو نفسية واجتماعية أو دينية أو.. إلخ. والاختلاف يفرضه التخصص وتفرضه الثقافة والاطلاع اللازمان للحوار الثقافي أحياناً. ومن المهم ان يقتصر الحوار الثقافي على الصحافي المتخصص في الثقافة ومجالاتها. والصحافي المثقف بشكل عام - متمكن من كل حوار يخوضه ويتهيأ لمثله ان يكون صحافياً شاملاً لأنه يزن ثقل حواره بما يتناسب وتطلع محاوره فيتميز حواره باستعداد وإعداد ويتضح ما فيه من عمق قراءة وتأمل يخدمان القارئ والمبدع والكتاب مع ما يعانيه من هجر قارئه له. وهو ما تحقق لقارئه فائدة به. وهناك دخلاء كثر على المقابلة الثقافية، يهبون أقلامهم حق إجراء مقابلة لا تنتمي قيد أنملة إلى اهتماماتهم أو تتمكن منها قدراتهم الحوارية وتظل ملكاتهم إزاءها محدودة ولا تشفع لهم خبرتهم المحصورة في نمط من أعمال مماثلة لحوار من نوع معين استمروا على إجرائه واعتادوه، وتتحمل بعض المسؤولية الشخصية المثقفة التي ترحب بمقابلة صحافي من هذا النمط وإجرائه حواراً معها. وقبولها بحوار هزيل ما هو إلاّ دليل على ان إبداعها ليس جديراً بالإشارة إليه. والترويج لمحاور غير متمكن خطأ فادح يتحمل معظمه المسؤولون عن صفحات الثقافة، إذ يتساهلون في إعطاء مساحة في صفحاتهم لنشر حوارات ضعيفة وتمكين محاورين هزيلي الثقافة من مواصلة التعاطي المتهالك في مجالي الثقافة والفكر. وإذا كان الصحافي ممن اعتادوا حوار شخصيات غنائية أو رياضية تشكر للصحافي حسن اجتهاده في صياغة جملها وعباراتها الركيكة المفككة في جمل مفيدة وتصنيفه إياها بحسب إثارتها واستثارتها لمشاعر الانفعال والتفاعل التي قد تجنح لسلبية السلوك وعنصرية التعصب فذلك ما يتناقض ومساعي الشخصية الثقافية. فلا يسعف صحافي من هذا النمط إدراكه لثقافة لا تحتمل سوى معرفة واطلاع فيفشل محاور هزيل في خوض غمار ثقافة تعتمد الحوار فشلاً واضحاً. وهناك أسئلة إبداعية يلاحظ تكرارها في حوار المهتمين بالإبداع أو المبدعين أنفسهم، من ذلك مثلاً: - لمن تكتب؟ ولماذا تكتب؟ - ما هي الكتابة بالنسبة إليك؟ - هل توجد الآن قصة قصيرة؟ - ما الفرق بين أدب الرجل وأدب المرأة؟ - من يعجبك من المبدعين؟ - ما رأيك بالكاتب أو الشاعر أو الناقد أو القاص فلان؟ - ما آخر كتاب قرأته؟ - ما رأيك في الشعر الآن؟ - ما رأيك في (ما يسمى) قصيدة النثر؟ وهذه الأسئلة الثقافية وما يشابهها تعبر في معظمها عن المواقف الشخصية لمحاوريها إزاء فن إبداعي ما. ويوحي بعض تلك الأسئلة إلى الطرف المعني بالحوار، ما ينبغي ان يأتي جوابه على نحوه، ومنها ما يكيل اللوم على جيل ويثني على آخر. وقد ينشغل معظم محاوري الشخصيات المثقفة بتهشيم قاعدة المرونة في قبول الثقافة الأخرى أياً كانت قديمها وجديدها ومنهم من يسعى إلى مصادرة وجهة النظر الأخرى التي يختلف معها. وهذا من شأنه ان يسهم في صنع قارئ متطرف ويضعف في ذهن المتلقي مدى التطلع الانطباعي التلقائي إلى ثقافة وإبداع يتناسبان واحتياجاته الفكرية والنفسية والاستيعابية وهو ما يستشفه استيعاب المتلقي - ويذبح فطرة حسه النقدي إزاء ما يتلقاه وما يعيه من ثقافة تواكب همومه وذاكرة مخيلته ما يؤدي به للبحث عن ثقافة ومثقف وصحافة محايدة أكثر تحرراً وأرحب وعياً ومرونة في عرض وجهة النظر الأخرى دون ميل أو تدخل أو تأثير ذي منحى شخصي بحت. وبعض الصحافيين المهتمين بالمقابلة الإبداعية يحدد مقابلاته ويخصص حواره بتناول إصدار جديد أو آخر متجدد بما يثيره من جدل. وهذا يعتمد على براعة المحاور والمبدع، فمن المبدعين من يقتل بتقليدية المتضحة في إجاباته؛ المحاور فتسقط غاية الحوار وتموت قيمته. ومن المحاورين من يهوي بسماجة أسئلته التي لا يستطيع المبدع تحت إلحاحه ان يتنصل منها ويذهب بالمبدع وبإصداره إلى المقصلة من جراء حواره. والمحاور المثقف الجاد يرفع شأن صحيفته التي تستكتبه ويرتفع بوعي قارئها وبالشخصية الإبداعية، إذ يستشعر حسها ويقرب بين القارئ والمبدع وهو بما تنبئ به مداخلته وملامسته لأدوات مبدعة يدفع القارئ إلى بناء علاقة حميمة ما يزيد القارئ شوقاً إلى قراءة مستمرة للمبدع والإبداع. وحوار أو دراسة من هذا النوع تؤدي دوراً فكرياً يتهيأ به شكل من أشكال النقد قد يبدو مستغرباً إذ يتشارك في بنائه وصياغة دوره، الصحافي الجاد بما يطرحه والمبدع المتجدد في استقراء إبداعه والتحاور حوله وبما تتكشف معه من دهشة تحصل للمبدع أولاً وتنتج من وعيه بإبداعه ربما هو ما يزيد قاعدة اليقين وأهمية ما يقوم به الصحافي المجتهد بقيمة ومدى ما لعمله من دور مؤثر في المتلقي والمبدع والإبداع. وهو ما يزيد الصحافي المثقف تحفزاً وسعياً إلى تكوين حوارات أخرى من أنماط متنوعة. تهدف إلى استقراء يضع المبدع في قلب إبداعه. وبسعة تخاطرها وإدراكها الحميم لقراءتها التي تتفاهم بما ترمي إليه من أهداف مع غاياتها النبيلة والجادة في آن، وبمواجهته الإبداعية التي تتحد وتتوحد؛ فقد تتغلب دراسته الجادة - على تطرف لا ينبغي ان تلقي الثقافة له بالاً، لتصل إلى ما يخدم فكراً يتشظى بنار معناه أو تفسر عاطفة ووجداناً يهميان بحروف إلهامهما المتدثر بخزينة مجهولة لمستقبلها معلومة لغيبها في مواجهة رحبة أهدافها. ومن الصحافيين من يبدو منشغلاً بمطالعة حروف أسئلته القادمة وقد يكون ضيفه أجاب عن أحدها وأعاد إجاباته دون ان ينتبه إليه الصحافي المشغول فاكتشف ضيفه ذلك ما أشعره بلا مبالاة الصحافي بقوله وجوابه يضطر معها الضيف ان يقابل السؤال الجديد بما يشبه ذلك من لا مبالاة قد لا يقصدها الضيف، ولكن اللا شعور يتجاوب تلقائياً ويتفاعل مع اللا شعور المقابل. وبالرغم من ان المحاور يكون وهو يقابل الضيف مسجلاً للمقابلة كاملة، فليس ذلك بمحفزه لاستكشاف وابتكار أسئلة تبذر بذورها من حديث الضيف إليه مع ان هذا هو الهدف الأمثل من التسجيل غالباً. ومن الممكن إرسال الأسئلة إلى الضيف المقصود بالمقابلة والحصول منه على إجابات جاهزة ناضجة في دراسة مضامينها ومتأنية في عباراتها. ومن جهة أخرى، يتخلص معها المحاور الصحافي من مساءلة الضيف أو غضبه المتصور تغيير وتلاعب الصحافي بإجاباته؛ ما تتدنى به كثير من المقابلات الصحافية. وهناك رأي يلوح إلى ان المذياع والتلفاز حققا السبق في الحوار المباشر بما يصنعه في لحظته وجملة إجاباته وهما بحضورهما هذا غلبا الصحافة. ومع صحة هذا شكلاً لا ضمناً فالحقيقة غير، إذا وعينا ان الحوار الذي يكون المكبر فيه هو الزعيم يفتقد لكثير من الحميمية التي تتأتى للحوار الصحافي. فكثيرون من أشخاص الحوار لا يجيدون التعبير عن أفكارهم بالصياغة الإذاعية ومهما جرى مع تلك الشخصيات من مقابلات فإن هيبتها من الأداة (المكبر) لا تموت ما تبدو به للحوار الصحافي ميزة تجعل الشخصية لا تفكر إلاّ في حوارها وحديث إجاباتها وهي إذ تنظر إلى من يحاورها تأنس بألفة مجلسه الحواري وتستريح إلى خصوصية منطقها بما يتيحه لها من فرصة وإمكانية تعديل كلامها أو تهذيب ما تعنيه من أمر تستطيع به ان تختار لنفسها القالب والكيفية والطريقة التي تليق بظهورها إلى قارئها. وليس الحوار الآخر في الإذاعة أو التلفاز كذلك إن تصور بعضهم ان لحوار التلفاز أو الإذاعة مصداقيته بما يقتنصه من إجابات الضيف التي لا يحتمل معها ادعاء أو يمكن ذلك للضيف فالواقع غير ذلك فيما يبدو للمتلقي من إجابات تحفل بتعقيب وتعقب المشاهد أو السامع واتصاله وهو ما يثبت نقصان مصداقية لاسيما أنها قيلت متسرعة، من خلالها أراد المحاور ان يرصد انطباع الضيف واحراجه وكشف ردود فعله لمتلقيه، وقد لا يهم المتلقي أمر لحظوي من هذا الطراز. وقد تناسب هذه الطريقة شخصيات دون أخرى. ولا ننكر ان فيما تعرضه نمطاً من التعرية يتوصل به متلقيه إلى حقيقة جلية ربما يبحث عنها. ويتم ذلك إذا لم تخضع المقابلة - من المذيع المحاور - إلى مبالغة في التصنع ومحاولة بث التلقائية والمباشرة في الحوار عمداً أو ان يتقدم عن وقت بثه. وإذا لم تخضع المقابلة لاتفاق مسبق قد تنجلي بخديعته شكلياً ولكنها خديعة لا تخفى على مشاهدها أو سامعها باتفاقها المسبق فتنجلي له تماماً. والحوار المباشر مسألة لم تتأت بعد لفضائياتنا العربية مصداقية تنفيذها بنموذجية. وقد تنفذ بأشكالها السطحية لشخصيات مهما اجتهد مذيعها بما يصبوه عليها من قذائف تلقائيته فلا يتصيد متلقيها منها ما يطمح إليه من حوار يتم مع غيرها. والمحاور الجاد وإن ندر في إعلامنا العربي عموماً على اختلاف وسائله وتعددها وعلى مدى استعدادها للتصنع في تلوين الحوار المعد بلون الحوار المباشر - يكون محاوراً مؤثراً تأثيراً لا يمكن للذاكرة التي تحاورت معه وتعاطى معها ان تغيبه عن ذكرياتها وإن مرت تلك الشخصية بمحاورين لا يحصون يبقى ذلك المحاور بما برع فيه وبما تمتع به من دقة وانتباه وإنصات في وعي تلك الشخصية التي تحدثت إليه ذاتها عندما استقر منطقه في عقلها وأدرك بحصافته وانتباهه وحسن إنصاته في فهم ما تقوله أو تقصده وبما يوجه إليها من أسئلة أثارت إعجابها في إجاباتها فأعجبت متلقيها وأشبعت فضوله. فتمتع الحوار بقيمته التي لا يضل معها ويغرق فيما لا يعنيه أو يهمه أمر معرفته. وما تمتع الحوار به هو ما أمكن لقارئها ان يجد فيه منفعته التي لا تبدو أهميتها لغيره حين تبدو له. وينجح الحوار إذا ما تحلى بالتقدير والتحليل المدروس والدارس مشروعه من قبل الصحافي المعني بحواره وبما اختار لشخصياته من أسئلة ومنهج حواري يتصف بنضوج تفكيره ما يتأتى لمحاوره معه ان يلقى عمله نجاحه الذي يحق له.