لم تكن المعارض التي تحتوي على الأعمال التركيبية والفن الإبداعي، لافتة للجمهور المحلي، والذي تعود على أنماط معينة من الفن التشكيلي والمعارض التقليدية، الفكرة جاءت مع الانفتاح الثقافي، الذي يسهم دائما على تعريف المجتمع وفنونه وفتح نافذة غير تقليدية للبصر! المبدعة فاطمة عبدالهادي، تخصصت وتعمقت في التقنية، تنقلت من خلالها بين أستوديوهات مختلفة وسفريات لدولٍ عدة لتتعلم من فنانين، وممارسة الطباعة اليدوية والطباعة بالشاشة الحريرية، لكنها تقول: التقنية جذبتني، لأنها دقيقة وعملية ومتجددة. فاطمة تحدثت عن مشروعها ومكانة التركيبات وعلاقة الفن مع المجتمع، فإلى الحوار: * هل يمكنك إخبارنا المزيد من التفاصيل حول عملك الفني «جعلك بالجنة»، الذي تشاركين به في بينالي الفنون الإسلامية 2025؟ وكيف تشكلت رؤيتك حول هذا العمل؟ * «جعلك بالجنة» هو عملٌ تركيبي يمثل حديقةً وهمية مستلهمة من الذاكرة، حيث تشكل الرائحة والظل عناصر محورية فيه. اعتمدت في العمل الطباعة بالشاشة الحريرية على قماشٍ شفاف، وقمت بابتكار حبر يملك درجات مختلفة من الشفافية حيث استخدمته ليعطي أبعاد مختلفة تشبه الظلال، واستخدمت الريحان كجزءٍ من العمل للدلالة على الحنين والشفاء، وهي عناصر تربطني بذكرياتٍ شخصية. رؤيتي لهذا العمل بدأت من فكرة الرغبة في استحضار لحظات الفقد وتحويلها إلى مساحةٍ للسكينة والتأمل والدعاء. كنت أبحث عن طريقةٍ تجسد العلاقة الروحية بين الإنسان والطبيعة، وبين الغياب والحضور. o يضم عملك التركيبي «جعلك بالجنة» قطعاً معلقة من قماش الشاش، وأوراق الريحان، وهيكلاً خشبياً. ما الذي دفعك لاختيار هذه العناصر تحديداً، وما دلالاتها في سياق العمل؟ o اخترت هذا النوع من القماش، وبالعادة استخدمه في أغلب أعمالي لأنه يخدم موضوعاتي ويحمل طبيعة شفافة، تشبه الذكرى حين تمرّ بنا، خفيفة لكنها تترك أثراً عميقاً. فالريحان في هذا العمل ليس مجرد نبات، بل هو امتدادٌ لذكرياتٍ شخصية وعاطفية مرتبطة بأمي. أمي دائماً تقول لي: «الريحان من ريحة الجنة»، وكانت تعطيني إياه في لحظات الحزن كنوعٍ من المواساة، بطريقةٍ إيجابية وحنونة. كانت تحاول أن تخفف عني، وتعلّمني أن أوجّه الحزن لدعاء، وأنه عندما نشم رائحة الريحان علينا أن نتذكر الناس الذين فقدناهم وندعي لهم، وكأنَّ الريحان يحمل هذا الرجاء بأن يكونوا في الجنة. هذه العبارة بقيت معي، وبدأت بعدها أزرع الريحان في بيتي، وأضعه في غرفة المعيشة، كأداةٍ للذكرى والدعاء، وكوسيلةٍ شخصية لخلق حضور للغائبين. مع الوقت، بدأ الريحان ورائحته يشكلون مادةً أساسية في عملي الفني، وكأنه أثراً حيّاً للذكرى، ورابط خفي بيننا وبين من رحلوا. أما الهيكل الخشبي، فكان بمثابة عمودٍ فقري لهذا الفضاء، يربط بين العناصر ويُظهر التوازن بين الهشاشة والبنية، بين العشوائية والتنظيم. * تعد الطباعة بالشاشة الحريرية عنصراً أساسياً في ممارستك الفنية، سواء في المطبوعات الفنية الدقيقة أو التركيبات واسعة النطاق. كيف بدأت رحلتك مع هذه التقنية؟ وما الذي جذبك إليها وجعلها جزءاً أساسياً من أعمالك؟ * بدأت رحلتي مع الطباعة بالشاشة الحريرية بشكلٍ غير مباشر. في البداية، كنت أساعد في مهامٍ بسيطة داخل أحد الأستوديوهات في بريطانيا. مع الوقت، تحول هذا الفضول إلى شغف، وبدأت أتخصص وأتعمق في تقنياتها. رحلتي استمرت لأكثر من «15» سنة، تنقلت خلالها بين أستوديوهات مختلفة وسافرت لدولٍ عدة للتعلم من فنانين متمرسين، وممارسة الطباعة اليدوية بشكلٍ عام والطباعة بالشاشة الحريرية بشكلٍ خاص. التقنية جذبتني لأنها دقيقة وعملية ومتجددة، لكنها أيضاً مفتوحة للتجريب، والمغامرات محسوبة لإنتاج العمل الفني، كما تقدم الطباعة بالشاشة الحريرية خيرات مرنة للإنتاج الفني و تجمع بين التقنيات الرقمية والتقليدية، وهذا يناسب طريقتي في العمل الفني. * برأيك، ما أهمية التقنيات التقليدية، مثل الطباعة بالشاشة الحريرية في الفن المعاصر، لا سيما وأننا نعيش في عصر التحول الرقمي المتسارع؟ وكيف تمكنت من إعادة توظيفها بأسلوبٍ مبتكر في أعمالك الطباعية؟ * التقنيات التقليدية مثل الطباعة بالشاشة الحريرية ما زالت تحمل قيمة كبيرة في الفن المعاصر لأنها متجددة وتربط الفنان بالمادة والزمن والإحساس اليدوي. وفي زمنٍ أصبح كل شيءٍ سريع تقدم هذه التقنية وهذا النوع من الطباعة مساحةً للتأمل والبطء والتفاعل الحسي مع العمل والكثير من التجهيزات والقرارات قبل إنتاج العمل الفني. التعلم فيها كبير، التقنية نفسها تدمج بين التقليدي وبين الرقمي، لأنها تعتمد على التصميم الرقمي أحياناً، لكنها تُنفذ يدوياً، مما يجعلها مساحة غنية لتجديد التعبير البصري، ومرونة التقنية تمكّن الطباعة على كل الأسطح تقريباً، وهذا ما يجعلها تقنية ممتازة لكثيرٍ من الفنانين. * كيف تم توظيفها في أعمالك خلال الخمس سنوات الأخيرة؟ * بدأت بابتكار أحباري الخاصة، وأعتقد أنَّها إحدى أسرار هذه المادة، بحيث من الممكن أن أجعل الطبعة ملموسة، ويمكن أن أجعل الأحبار تحتوي على روائح. وقد صنعت العديد من الأحبار التي تحتوي على خصائص معينة. * مرَّ المشهد الفني السعودي بتحولاتٍ كبيرة خلال السنوات الأخيرة، خاصةً مع تنامي الفرص المتاحة للفنانات، كيف ترين دوركِ في تشكيل هذا المشهد الحيوي؟ * أؤمن أنَّ الفنان ليس صانع عمل فقط، بل جزء من السياق الذي يعيش فيه، وجزء من التطور يكمن في المشاركة والتبادل الثقافي. مع التحولات في المشهد الفني، شعرت بمسؤوليةٍ مضاعفة، ليس في إنتاج أعمالي فقط، بل في خلق بيئةٍ تعلّمية ومجتمعية، وبالتحديد بعد انضمامي لفريق «معهد مسك للفنون» شعرت بالتمكين. ومن خلال قيادة أستوديو الطباعة بالشاشة الحريرية ل «معهد مسك للفنون» والبرامج المتخصصة من خلال هذه المساحة، أسهمت في دعم الفنانين والفنانات وتمكينهم من أدوات التعبير والإنتاج، والمساهمة في بناء حركةٍ فنية أعمق وأكثر وعياً. * برأيك، ما الاتجاه الفني القادم الذي سيشكل علامةً فارقة في المشهد الفني السعودي المعاصر؟ * أعتقد أنّ الاتِّجاه القادم سيكون مرتبطاً أكثر بالبحث، وبالتجريب، وبالعودة للمادة. الفنانين اليوم يميلون للتعمق في مفاهيم الذاكرة، واللغة، والتاريخ، والهوية. ومع ظهور برامج كثيرة تثري البحث الفني، وتعزز من التبادل الثقافي، وتدعم الفنانين في تطوير أدواتهم التقنية، أصبح هناك اهتمام حقيقي ببناء برامجَ تعلّمية قصيرة وطويلة، تُحفز الفنان على التفكير وتحويل المفهوم إلى إنتاجٍ ملموس. * بحكم عملك في التدريس في معهد مسك للفنون، أنت في قلب المشهد الإبداعي المتنامي في المملكة. كيف أثَّر هذا الدور على رؤيتك الفنية؟ وكيف أسهمت تجربة توجيه الجيل الجديد من الفنانين السعوديين في تعميق فهمك للفن أو إعادة تشكيله؟ * لقد كان لتجربتي في مجال التدريس في «معهد مسك للفنون» أثر كبير في تغييري. ما كنت فقط أقدّم محتوى، بل صممنا طريقة تعليم خاصة بالفنانين، تعتمد على التجربة والعمل اليدوي وربط المفهوم بالإنتاج. عملنا على التعليم من خلال الممارسة، وكانت البرامج مساحة للحوار والتبادل الحقيقي. كل لقاء مع فنان أو فنانة كان يفتح لي زاوية جديدة في فهم الفن، وفي إعادة التفكير بممارستي الشخصية. * هل يمكنك مشاركة مشروع أو ورشة عمل مميزة قدمتها في معهد مسك للفنون؟ وكيف كان تأثيرها على المشاركين؟ * من أقوى البرامج التي قدمناها كانت الإقامة القصيرة بعنوان «كتاب الفنان». في هذا البرنامج كان أحد أهدافنا تثقيف مجتمع الفنانين عن «ما هو كتاب الفنان؟»، وكانت الفكرة أنَّ الفنانين خلال شهرٍ واحد فقط قادرين على إنتاج كتابٍ يدوي بالكامل، باستخدام تقنيات الطباعة بالشاشة الحريرية. قمنا باستقطاب خبراتٍ خارجية لتجليد الكتب، وكان الناتج جميل وقوي. لم يكن البرنامج فقط إنتاج، بل مساحة تعلم حقيقية، مكثفة، ومُلهمة، ونحن مستمرون في تقديم هذا النوع من الإقامات من خلال أستوديو الشاشة الحريرية، وغيرها من البرامج الذي يقدمها «معهد مسك» سواء برامج محلية أو عالمية. * من وجهة نظرك، ما مدى أهمية المؤسسات مثل معهد مسك للفنون في صقل المواهب وتعزيز الإبداع داخل المشهد الفني السعودي؟ * وجود مؤسسات مثل «معهد مسك للفنون» أساسي جداً، لأنه ليس يوفر دعم فقط، بل يصنع بيئةً كاملة للتعلّم، والإنتاج، والحوار. علاقتي مع «معهد مسك» بدأت من إقامةٍ فنية عالمية، كانت إقامة برلين، ومنها تطورت إلى تصميم برامج تعليمية متخصصة. المعهد مكّنني من تطوير مسارات تعلم تخدم الفنانين محلياً، والتي تجمع بين السياق الثقافي والانفتاح العالمي، والذي يدعم تقدمه معهد مسك ليس لخدمة الفنانين فقط، بل يخدم المجتمع ويرفع الذائقة الفنية عنه، من خلال المعارض والبرامج العامة. * على مدار مسيرتك الفنية، شاركت في معارض فردية وجماعية على المستوى الدولي، بما في ذلك في برلين ونيويورك وإيطاليا. كيف تؤثر الاختلافات الثقافية على تفاعل الجمهور مع أعمالك؟ * أنا أؤمن أنَّ الفنان يقدّم قصة، والناس رغم اختلاف ثقافاتهم يتشابهون في استقبال القصص الإنسانية. أعمالي دائماً تنطلق من شيءٍ شخصي لكنه يلامس الإنسان العام، مثل: الذاكرة، الغياب، والعلاقة مع الطبيعة. الجميل أنَّ الجمهور من ثقافاتٍ مختلفة يتفاعل بطرقٍ متباينة، لكن دائماً في مساحةٍ مشتركة. وأنا أقدّم ثقافتي وقصتي، لكن من خلال لغةٍ حسّيّة وبصرية تفتح المجال للتفسير والتأمل من أي مكانٍ في العالم. * تركز أعمالك الأخيرة، خصوصاً في نسخة الرياض من معرض «فن المملكة: إضاءات شعرية»، على استكشاف الإرث الثقافي. هل يمكنك إلقاء الضوء على مساهمتك في هذا المشروع ودلالاتها الفنية؟ o شاركت بعملٍ تركيبي بعنوان «سيُشفى»، وهو عمل مستوحى من وصفاتٍ علاجية قديمة، وصفات كانت تُمرر من جيلٍ إلى جيل، تستخدم فيها النباتات، والمواد الطبيعية، والرائحة كجزءٍ من عملية الشفاء. العمل كان محاولة لتوثيق وإعادة إحياء هذه الممارسات، لكنه في الوقت نفسه لم يكن فقط عن الشفاء الجسدي، بل عن الشفاء العاطفي والروحي أيضاً، بحيث يعطي العمل أملاً في الاستمرار، وفي التعافي. * يستلهم عملك التركيبي في بينالي الفنون الإسلامية رموزه من الذاكرة والرمزية الروحية. ما الأثر الذي تأملين أن يتركه لدى الزوار، وما التجربة التي ترغبين في أن يعيشوها من خلاله؟ * «جعلك بالجنة» هو مساحة هادئة لكنها مشحونة بالعاطفة، حضور للغياب، ودعاء صامت. أتمنى أن يعيش الزائر شعور وكأنه في حديقةٍ غير مرئية، مكان مألوف، شعور الحفاظ على الذاكرة، واستحضاره بشكلٍ إيجابي. الحركة عنصر مهم في العمل، حيث يتطلب منك المشي في هذه الحديقة الخيالية التي تشبه الممر وتعطيك شعوراً بالتسليم والإيمان والقبول والدعاء لكل شخصٍ رحل عنّا.