في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم، وأصبحت الألقاب تُمنح بلا معايير واضحة، بات من السهل أن يُلقب البعض أنفسهم ب «المفكرين»، لمجرد أنهم قرؤوا عشرة أو عشرين كتابًا، أو جمعوا بعض المقولات الفلسفية. بينما الحقيقة تقول إن المفكر الحقيقي لا يُقاس بعدد ما قرأ من الكتب، بل بما يملكه من وعي نقدي، وقدرة على التحليل العميق، ورؤية متوازنة للواقع. لقد قرأت كثيرًا في هذا الباب، ووفقاً للعالم الدكتور عبدالكريم بكار، فإن التفكير ملكة تُبنى بالتدريب والممارسة، وأن القراءة وحدها لا تكفي لصناعة المفكر. المفكر يحتاج إلى موهبة وتعليم وتدريب، وهذه العناصر لا تنفصل عن بعضها بل تتكامل، لتصنع شخصًا يتجاوز تخصصه الأصلي، لينشغل بصناعة المفاهيم وإنتاج الأفكار، وتوفير الأسس لفهم الماضي والحاضر. فالمفكر ليس مجرد قارئ متابع، بل هو شخص يمتلك أدوات لفهم العلاقات بين الأشياء، وبناء أطر فكرية قادرة على تفسير الواقع، واكتشاف سنن الله في الخلق وفي حركة المجتمعات. والمفكر له فروقاته عن العالم، فيختلف عنه أن العالم هو المختص أو المتخصص؛ فبينما يبحر العالم في أعماق تخصصه، يُحلق المفكر في رؤية نقدية شاملة في سماء المجتمع ، واعياً بتقدم أو تخلف مجتمعه، وجذور أزماته ومداخله إلى التحضر. ومن الضروري كذلك أن نميز بين المفكر والفيلسوف، فالفلسفة بطبيعتها تنتج مفاهيم مجردة قد تنفصل أحيانًا عن واقع الناس، بينما المفكر الحقيقي يبقى لصيقًا بمجتمعه، يتلمس احتياجاته ويقرأ مشكلاته، ويعمل على تحويل أفكاره إلى أدوات حقيقية لتطوير الواقع. ولعل من أبرز الأمثلة الحاضرة اليوم، ما نراه في كثير من اللقاءات الثقافية والصالونات الأدبية، حيث يبرز الخلط بين المفكر، والناقد، والقارئ. فنرى بعض من هم أصحاب فكر وكلمة يتسابقون لإثبات أنهم الأحق والأفضل بحمل لقب «المفكر»، ويحاول كل منهم إثبات وجهة نظره باعتبارها الحقيقة المطلقة، حتى لو كانت النتائج لا تخدم الفكرة، ولا تحمل للواقع معنى. فيغيب الحوار البنّاء لتحل مكانه مناكفات فكرية تدور حول الألقاب والنظر إلى مكانته الاجتماعية أو عدم تقبل فكرة أنه في مكان يحتمل أن يكون فيه على خطأ مهما كانت حجة من أمامه ورؤيته المحدودة للآخرين أكثر من جوهر الأفكار. وفي هذا المشهد تتجلى أزمة الثقافة حين تصبح هدفًا شكليًا لا وسيلة للوعي، فالمفكر الحق لا يسعى لفرض رأيه، بل يبحث عن الحقيقة من خلال الحوار، ويملك الشجاعة الكافية لتعديل قناعاته إذا اتضح له ما هو أصوب، أما من يجعل من كل لقاء فرصة لإثبات الأحقية الذاتية على حساب الفكرة، فإنه يبتعد عن روح الفكر وينحدر إلى ساحة استعراض ثقافي. وفي هذا السياق، تبرز الثقافة كأرضية أولى لصناعة المفكر، فالثقافة ليست رفاهية فكرية ولا ترفًا معرفيًا، بل مشروع حياة يتشكل فيه الوعي وتنمو فيه الأفكار، والمفكر لا يستهلك الثقافة فحسب، بل يعيد تشكيلها ويوجهها ويطوّر أدواتها، فهو ابن الثقافة وناقدها في الوقت ذاته، يتعامل معها بمسؤولية تتجاوز حدود المتابعة إلى فضاء صناعة المفاهيم وإنتاج الرؤى. وما نحتاجه اليوم هو أن نعيد ضبط مفهوم المفكر في أذهاننا، ونضع للأجيال القادمة معايير واضحة تسير عليها في هذا الطريق، فالفكر مسؤولية ثقيلة، ومن يتصدى لها بصدق يدرك أن الألقاب لا تصنع المفكر، وإنما الوعي العميق، والنضج العقلي والاجتماعي والثقافي. لقد علّمتني قراءاتي في الفكر أن المفكر الحقيقي لا يُعرّف بعدد الكتب، بل بما يقدمه من أفكار حقيقية قابلة لتغيير المجتمع نحو الأفضل، وأن المفكر الحقّ هو الذي يعرف جذور مشكلات مجتمعه، ويمتلك أدوات قراءتها وتحليلها من زوايا متعددة، ويبني رؤى واعية تنطلق من ثقافة حقيقية لا من تراكم معلومات أو استعراض معرفي.