سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يحاول تشكيل اهتمامات جديدة وجذب الناس للتعرف على أسباب مشاكلهم . إبراهيم البليهي : تتجمد الثقافات وتفقد الأذهان فاعليتها ...إذا لم تتعرض للمواجهة بأفكار معارضة
إبراهيم البليهي عينة لمفكر نادر، ليس هذا القول مجازاً، بل حقيقة تتأكد أكثر عندما نطالع ونتأمل في ما يفعله هذا الرجل، حين يضع حال العرب تاريخياً وحضارياً، على طاولة التشريح، وتحت مجهر البحث والتساؤل… مفكر دخل إلى متاهة العقل العربي وعمق تفكيره، وخاطب الجمهور موضحاً"بنية التخلف"عنوان كتاب له، التي تأثروا بها قبل الإسلام. احتفى بالإسلام ديناً، فآلمه حال المسلمين، ونظر إلى غيرهم فرأى التقدم والحضارة تسير في أوسع خطواتها... وهو الآن كما منذ نحو ربع قرن يحاول دفع العرب إلى التقدم والازدهار فكرياً. المفكر البليهي لا يكتب عن حدث آني، أو لحظة عابرة في تاريخ العرب ولكنه يغوص عميقا إلى أبعد …هنا حوار معه، حول قضايا فكرية واجتماعية عدة. بداية يلاحظ من خلال طروحاتك، أنك لا تكتب عن الأحداث الجارية ولا قضايا المجتمع اليومية، مع أنها التي تشغل تفكير الناس؟ - لا أكتب استجابة لحدث آني ولا انفعالاً مع مشكلة طارئة، وإنما أنا مشغولٌ بتشخيص وتحديد الأسباب العميقة للأحداث والمشكلات، فنحن قد انشغلنا طويلاً بالآني إلى درجة الاستغراق، ننفعل به ويصرفنا عن الانشغال بالبحث عن الأسباب المزمنة. لذلك فإنني أحاول التعرف على الجذور العميقة والموغلة في الخفاء، التي تغذي هذا الواقع المتخلف، وتمدُّه بأسباب الديمومة والمقاومة ... لكن الناس مشغولون بالآني والطارئ، ولا يهتمون بمن ينشغل بغير اهتماماتهم الآنية ؟ - لا يمكن أن يتحقق أي تقدم إلا إذا جرى تغيير اهتمامات الناس، ليتجاوزوا الراهن السطحي ويبحثوا في الأعماق، ليروا من أين تنبع مشكلاتهم. إن معضلاتنا ذات جذور ثقافية عميقة مزمنة، وليست المشكلات الآنية سوى تفريعات واستطالات لتلك الجذور العميقة. إنني أحاول الإسهام في خلق اهتمامات جديدة، وجذب اهتمام الناس للتعرُّف على الأسباب الخفية المزمنة لمشاكلهم، لأنني أدرك أن الجهل المستشري بهذه الأسباب، ليس سببه ضعف الذكاء،إنما بقيتْ هذه الأسباب مجهولة لأنها ظلت خارج مناطق الهم اليومي للناس، وبعيدة من مجالات تفكيرهم ولو اهتموا بالتعرف على هذه الجذور العميقة، لبدتْ لهم واضحة بل صارخة. فالمعضلة تعيش في أعماقنا وليست طارئة علينا ولا هي من خارجنا، إنها معضلة ثقافية بالدرجة الأولى، وليست مظاهر التخلف الكثيرة سوى تجسيدات لهذا الخلل الجذري، الذي تعمَّق وتفرَّع وتكوَّن، عبر مئات السنين وتضافرتْ أسبابٌ كثيرة لتكوينه وترسيخه وضمان استمراره ... التخلف ليس حدثاً طارئاً كيف نشأ عندك هذا الاهتمام، وكيف أدركت أن التخلف ناجم عن خلل ثقافي مزمن؟ - إن استحكام قبضة التخلف الثقافي على المستوى العربي والإسلامي، دفعني إلى الاهتمام الشديد بالتعرف على الأسباب، وقد تكوَّنتْ عندي قناعة تامة بأن التخلف ليس حَدَثاً طارئاً وإنما هو الأصل، وأن تجاوز هذا الأصل يتطلب مجهودات استثنائية فكرية وعملية مكثَّفة، كما تكوَّنتْ عندي رؤية واضحة بأن التخلف ليس عَرَضاً، وإنما هو بنية شديدة التركيب والتعقيد والتماسك، وأن الخروج من هذه البنية المغلقة لا يمكن أن يتحقَّق، إلا بحدوث تغييرات جذرية في البنية الثقافية ... ما دام أنك ترى أن الخلل موجودٌ في الثقافة، وهي تحكمنا ولا نحكمها، فكيف يمكن أن نعيد تكوينها ونحن محكومون بها؟ - إن إعادة تكوين الثقافة مهمة عسيرة، بل لولا الانفتاح القسري الجديد على الثقافة العالمية لاقتربتْ المهمة من درجة الاستحالة. ولكن تدفُّق المعارف وعالمية التواصل وانتشار الانترنت وطوفان الفضائيات، كل هذه المؤثرات الجديدة الغامرة قد جعلتْ هذه المهمة المستحيلة مهمة ممكنة، غير أنها ليست مهمة سهلة بل لا تزال بالغة العسر. لأن ثقافة المجتمع هي عقله، ومن العسير أن يعترف الناس بأن عقلهم ينطوي على خلل جوهري، من دون أن يعلموا. ولكن لا بديل عن هذا الاعتراف، فالمسيرة الحضارية تؤكد أنه لم يتقدم أي مجتمع، إلا بعد أن راجع ثقافته وأعاد صياغة ذاته، وتولى بنفسه إعادة تشكيل عقله !!. هناك أكثر من ملاحظة، حول أن أفكار البليهي تقدَّم في قالب وثوقي تماماً، فيما هي تدعو إلى محاربة الوثوقية كيف نحل هذا الإشكال؟ - الوثوقية هي أن تكون واثقاً في السائد ثقة مطلقة عمياء، مع أنك لم تنهض بأي مراجعة ولا تمحيص، وأن تبقى مرتهناً بهذا المألوف ومأخوذاً بوهم كماله وتفرُّده، فتكتفي به وترفض نقده أو مراجعته ولا تصغي لما يخالفه، ومع كل هذه السلبية في التكوين الذهني والمعرفي والعاطفي، تتوهم أنك بنيت هذا الوثوق بنفسك وتتجاهل أنك مبرمَج به، من البيئة التي نشأْتَ فيها من دون أية مشاركة واعية منك، أما حين تبني بنفسك لنفسك موقفاً مستقلاً متأسَّساً على التحليل والبحث والاستقصاء والمراجعة والنقد ونقد النقد، فليس ذلك من الوثوق في شيء. إن التأسيس على الشك والمراجعة، لا يعني عدم الوثوق في الحقائق التي يتم الوصول إليها، وإنما يعني هذا التأسيس الواعي إدراك خفاء الحقائق والتباسها الشديد، وحاجتها إلى البحث الجاد والنقد البصير من أجل النفاذ إليها، بعد اختراق الحُجُب الكثيفة التي تفصلنا عنها، وبذل الجهد لاستخراجها من تحت الركام الثقيل المزمن، والسعي الجاد إلى الوصول إليها بعد تجاوز العوائق والصوارف الكثيرة، ولا بد من الثقة بما يوصلنا إليه البحث، ولكن على مستوى التكوين تبقى ثقة نسبية، يستمر معها البحث والاستقصاء والاستخلاص والمراجعة، أما على مستوى التقديم فلا بد أن يكون العرض واثقاً. كيف نميَّز بين الوثوق الأعمى والوثوق البصير؟ - الوثوق الأعمى يتأسَّس بالتناسل الثقافي، عن طريق الامتصاص التلقائي للثقافة السائدة، وهو في ثباته يشبه التناسل البيولوجي. أما الوثوق البصير فإنه يتأسَّس على الحقائق الممحَّصة، إنه يبدأ بالشك والاستشكال، حول بعض التصورات والممارسات السائدة، فيأخذ بالتساؤل الهادف إلى معرفة الحقيقة النقية، ليستخلصها من ركام الحقائق المزيَّفة، ويجتهد في البحث والمراجعة والاستقصاء والغربلة، وبذلك يكوَّن لنفسه رؤية مستقلة وموقفاً حراًّ، ثم يقدَّم للناس ما انتهى إليه بحثه وكدُّه بأسلوب واثق. إنهم يرفضون الإصغاء... التعلق بالأشياء أليس هذا هو الوثوق الذي تحذَّر منه، وتدعو إلى التخلي عنه؟ - كلاَّ ليس الأمر كذلك، فالفرق بينهما فرقٌ هائل. فليس الوثوق هو أن تُقَدَّم أفكارك وآراءك بثقة، فهذه الثقة لا بُدَّ منها ليكون فكرك مقبولاً، فالناس لا يقبلون من المتردد وغير الواثق في نقل خبر أو عرض معلومة أو طرح فكرة، فكما أن المعلمين يقدَّمون المعارف للدارسين بجزم وثقة ومن دون تردُّد، وكذلك تفعل وسائل الإعلام في تقديم الأخبار والوقائع، فكذلك المشتغلون في الفكر عليهم أن يتبعوا الأسلوب نفسه إذْ لا بد أن تُقَدَّم الأفكار في ثقة، وهذا ليس من الوثوق في شيء بل هو أُسلوبٌ مطلوب وضروري، لتكون الأفكار مقبولة. فالوثوقية ليست هي التي تقدَّم ما لديها في ثقة، وإنما هي التي لا تقبل المراجعة، ولم تكوَّن ما لديها ببحث واستقصاء، وإنما ورثته كما ورثت تكوينها الجسدي، ومع هذه التلقائية العمياء تغيب عنها احتمالات الخطأ في التقييم، والوهم في التصور والنقص في المعلومات والخلل في التكوين. إن الوثوقيين لا يتصورون أن هذه الاحتمالات تنطبق عليهم، فهم واثقون من كمال معارفهم وكمال استنتاجاتهم وكمال مواقفهم، مع أنهم لم يكوَّنوها بجهد شخصي، وإنما امتصوها من البيئة امتصاصاً تلقائياً، إنهم غير مستعدين للمراجعة ولا للتراجع، مهما كانت المعطيات المضادة تنقض أفكارهم وتُدين مواقفهم... إنهم يرفضون الإصغاء ابتداء، ويحكمون على خطأ الآخر وانحرافه من دون سماع ما لديه، وما يميز الوثوقي أنه مندمجٌ في السائد ولا يتطرق إليه الشك في المألوف، فهو لم يُكوَّن أفكاره وآراءه ومواقفه باستقصاء ووعي، وإنما هو امتصَّ محتويات ذهنه، امتصاصاً تلقائياً من البيئة، ولم يقم في أي وقت من حياته بفحصها ولا الشك فيها، ولم يتطرق إلى ذهنه حاجتها إلى المراجعة والتحليل، ومن هنا يبقى الهندوسي هندوسياً والبوذي بوذياً والوثني وثنياً، وكذلك يفعل من نشأ في بيئة يُعبد فيها الشيطان. إن هذا هو الوثوق الفظيع، أما الأفكار التي لم تتكوَّن إلا بعد الشك المقلق والبحث المضني والتأمل العميق والاستقصاء الشاق والمراجعة الدائمة، فلا يمكن اعتبارها وثوقية مهما قُدَّمت بثقة، وإلا فلا يمكن أن نصل إلى نتائج فاعلة ومؤثَّرة، ولولا هذا الوثوق المسبوق بالاستقصاء لما تأسَّست العلوم. يقبل العقل العربي المنجزات المادية للأفكار الفلسفية الغربية، ويحرم في المقابل هذه الفلسفة، في رأيك ما سبب هذه الازدواجية؟ - إن استخدام الأشياء الجاهزة لا يتطلب علماً، وحتى الأجهزة المعقدة لا يحتاج استعمالها سوى إلى تدريب بسيط، فهو لا يتطلب إعداداً علمياً واسعاً وعميقاً، بل إن منجزات كثيرة لا يحتاج استخدامها إلى أية معرفة ولا أي تدريب، ولقد دلَّتْ الدراسات الحضارية والانثروبولوجية، على أن العقل البشري في المستويات الثقافية الدنيا يتعلق بالأشياء والأشخاص، وأنه لا يستطيع التعامل المباشر مع الأفكار المجردة، إلا في مرحلة النضج الثقافي. لذلك فإنه من السهل على المجتمعات المتخلفة، أن تتعامل مع الأشياء الجديدة، لكن من الصعب عليها فهم الأفكار الجديدة أو التفاعل معها أو تبنَّيها، فحتى أشد المجتمعات تخلفاً تستطيع بسهولة أن تستخدم الأشياء وأن تتعامل مع الماديات، لكن هذا الفهم وهذا التعامل يبقى معزولاً عن الأفكار الجياشة التي انتجتْها. إن التعلق بالأشياء هو سمة الثقافات المتخلفة، أما الارتقاء إلى التعلق المباشر بالأفكار من دون ربطها بالأشخاص، فهو نضجٌ لا يزال بعيد المنال في المجتمعات الإسلامية، لأنه لا يأتي إلا بعد مخاضات ثقافية عسرة، ونحن لم نمارس هذه المخاضات وما زلنا نجهل أسباب مشكلاتنا، وننفي أنها ذات عوامل ذاتية بل نبرئ أنفسنا، وندَّعي دوماً أن التآمر الخارجي هو المصدر الأول والأخير لهذه المشكلات !! ولن يُفلت العرب والمسلمون من قبضة التخلف، حتى يتشجَّعوا ويتجرأوا على نقد أنفسهم ومراجعة قيمهم، وإحداث تغيير جذري في ثقافتهم، وبذلك يعيد العربُ تشكيل وصياغة العقل العربي. كتاب الأغاني ومعضلة التخلف تتخذ من الثقافة الغربية مرجعاً لأطروحاتك، بينما المجتمعات العربية والإسلامية لا تزال تتخوَّف مما يُسمَّى الغزو الفكري، وهذا ما يجعلك في مواجهة التيار السائد. - لا بد من مواجهة التيار، لأنه لا يمكن إحداث تغيير ثقافي إلا بنقد الثقافة من داخلها، وبأفكار وأدوات من خارجها. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن مَن يتصف بقدر من الرؤية الموضوعية والإنصاف والواقعية، سيعترف بأن كلَّ ما تعيشه الدنيا من تطورات هائلة في كل المجالات، هو نتاجُ الثقافة الغربية. فهي بكل المقاييس ثقافة استثنائية، مثيرة ومتميزة بين ثقافات الدنيا كلها ماضياً وحاضراً، فمن البديهي أن يكون الرجوع إليها والتعرُّف على منابعها واكتشاف العوامل التي ميزتها، والحث على الأخذ بالأسباب التي اهتدت إليها وإبراز البواعث التي صعدتْ بها، إلى هذه المستويات العالية والآفاق المفتوحة. فمثلما أنني لا أقبل العودة إلى ركوب الحمار والجمل، مع وجود السيارة والطائرة، فكذلك لن أبحث عن علاج معضلة التخلف، بالرجوع إلى كتاب"الأغاني"أو"العقد الفريد"أو"جواهر الأدب"وإنما لا بد من الرجوع إلى الثقافة، التي أنتجت كلَّ هذه الإنجازات الباهرة في الفكر والفعل. فليس أمام المجتمعات في هذا العصر سوى خيار واحد، هو إتقان الأخذ بالأفكار والعلوم والآليات والتقنيات الغربية، والتعرف على العوامل التي أدَّتْ إلى كل هذه الاختراقات الباهرة، والاستفادة من المنجزات الإنسانية إلى الحد الأقصى. أنت مشغول بالهم الثقافي على المستوى الإسلامي والعربي والوطني، كيف ترى العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة؟ - إن العلاقة عضوية بين هذه المستويات، فالمسلمون في كل الأقطار قد ورثوا ثقافة واحدة مشتركة، تَلَبَّسَتْ على امتداد القرون بالأهواء البشرية وبالصراعات السياسية والطائفية والعرقية والإقليمية والعشائرية والأُسرية والفردية، فحجبتْ نصاعة الإسلام وأوهنتْ ضمائر الناس وأربكتْ عقول المسلمين، وحوَّلت ثقافتهم إلى ثقافة خصامية، كلُّ طرف يزكي ذاته تزكية مطلقة، ويجرَّم الأطراف الأخرى تجريماً مطلقاً، لذلك اهتمت هذه الثقافة الخصامية المشوَّهة اهتماماً مفْرطاً بالشعائر، وضيَّعَتْ المبادئ تضييعاً شديداً فصار اهتمام الناس بالمظاهر والشكليات، أكثر من اهتمامهم بالمبادئ والأساسيات فبات الالتزام بالمظهر وبالشكل، أهم من الالتزام بإقامة العدل أو تنوير العقل، كما أن تكريس الذهنية الخصامية، قد أبعد الناس عن الرؤية الموضوعية وأعماهم عن حقائق التاريخ، وعن بداهات الواقع ما جعلهم منفعلين لا فاعلين، وأبقاهم خارج حركة التاريخ المعاصر ... إن مما يؤلم النفس ويُدمي القلب أنه على رغم أن للمسلمين نحو ستين دولة، وأن دولهم كانت تمثَّل نحو نصف أعضاء هيئة الأممالمتحدة، إلا أن المكانة الدولية لكل هذه الدول مجتمعة، أقلُّ بكثير من تأثير دولة واحدة من دول أوروبا الغربية كبريطانيا أو فرنسا، وهذا يعني أن المجتمعات الإسلامية ما زالت هامشية في هذا العصر فهي خارج ميدان السباق ... وإذا كانت بعض الأقطار الإسلامية أضحت غنية، فإن هذا الثراء ليس من إنتاج المجتمعات نفسها وإنما هو من نتاج أرضهم، فهم عالة على الثروة الطبيعية المخزونة منذ آلاف السنين في باطن الأرض كما هي حال المجتمعات النفطية. فالمجتمعات الإسلامية ما زالت غير منتجة، باستثناء المجتمع الماليزي الذي بنى ازدهاره بفاعليته، ووعيه. إن المعضلة في العالم الإسلامي كله هي معضلة ثقافية وهي معضلة موروثة تكوَّنت تاريخياً، لذلك يبقى الشفاء مرهوناً بتصحيح هذا التكوين الثقافي. الإنسان صار إنساناً لأنه حر لا تزال هناك خطوط حمراء عريضة، تحيط بكثير من الأفكار في المجالين الثقافي والاجتماعي، ماذا تقول؟ - كلُّ تقدم وازدهار هو نتاج إلغاء أو تقليل الخطوط الحمراء، التي تحدُّ من تداول الأفكار ومن الحراك الاجتماعي، وكلُّ تخلف شائن هو نتاج استحكامات الخطوط الحمراء والحجر على العقول، وتدجين الأفراد. إن الإنسان صار إنساناً لأنه حُرٌّ ومختار، وهو لم يكن كذلك إلا لأنه عاقل والخطوط الحمراء هي إلغاءٌ للعقل وتقييد للفكر وعدوانٌ على إنسانية الإنسان، وكل مسؤولية تقوم على العقل والاختيار الحر. فإذا غاب العقل أو حصل الحجر عليه أو انتفى الاختيار، انتفتْ المسؤولية، وإذا اختل العقل أو انتُقصَتْ الحرية نقصَتْ المسؤولية بقدر انتقاصهما. فإنسانية الإنسان مرتبطة بعقله وبحريته بل هي نتاج هذا العقل وهذه الحرية، وتقدُّم الأمم هو نتاج حرية تداول الأفكار وإطلاق طاقات الأفراد والمؤسسات. كيف ترى الأجيال الجديدة؟ - حاضرُ الأجيال ومستقبلهم، مرتبطٌ بما سيتاح لهم من المعرفة والوعي والمشاركة وتداول الأفكار وتوطين التعدُّدية ... - أنت ترى أن العقل يحتله الأسبق إليه وبالتالي يستلزم الانعتاق من هذا الاحتلال... كيف ترى هذا العقل ؟ وما حدوده ؟ وما مفهوم البليهي للعقل؟ - تتجمَّد الثقافات وتتحجَّر العقول وتفقد الأذهان فاعليتها، إذا لم تتعرَّض للمواجهة بأفكار معارضة وبالتنافس والتحدي و بالمراجعة المستمرة، ولكن من أخص خصائص الثقافات المغلقة أنها لا تراجع ذاتها، إلا إذا دُفِعَتْ إلى ذلك دفعاً قوياً، ولا يأتي هذا الدفع إلا إذا أتيح للأفكار أن تتنافس. فالثقافات مثل الصنائع والخدمات لا تتطور إلا بوجود المنافس القوي، الذي يتمتع بالحقوق نفسها وتتاح له الفُرص نفسها. فالثقافة التي لا تتعرض للنقد والتحدي والمواجهة المباشرة، تبقى كما هي من دون أي تطور، بل إنها تتراجع وتضيف مع كل جيل قيوداً جديدة على نفسها وعلى الواقعين في أسْرها. فالنقد هو مفتاح التقدم الثقافي، وهو العامل الأول لتطوير عقل الفرد والمجتمع، ولكن يجب أن يكون هدف النقد اكتشاف الحقيقة، وأن يتحرى الصدق والأمانة والموضوعية، وأن يستشعر الناقد احتمالات خطئه مثلما يرى أخطاء الآخرين، فالهدف من النقد هو المراجعة والتدارك والتصحيح والبناء وليس الهدم. ويجب أن لا ننسى بأن الفرد لا يولد بعقل ناجز، فالعقل عند الولادة هو مجرد قابلية ويتشكل العقل بالثقافة، التي ينشأ عليها، فأنماط التفكير تتعدَّد بتعدُّد الثقافات ومن هنا يصح أن يقال العقل العربي والعقل الأميركي والعقل السلافي والعقل الياباني والعقل اللاتيني إلى آخر الكيانات الثقافية، وهذا المفهوم عن العقل هو مفهوم جديد لا بد من استيعابه وهضمه لنحسن تشكيل عقولنا ونجيد تشغيلها. لقد عملتم سنوات طويلة في العمل الإداري، وكانت لكم بصمتكم المميزة، فماذا أخذ منكم العمل وماذا استفدتم منه؟ - أخَذَ العملُ مني الكثير، لقد أنهك جسدي وأزَّم نفسي واستهلك أفضل سنوات عمري، واستنفد طاقتي وصرفتُ فيه من الجهد والاهتمام والإستغراق ما وددتُ أنني صرفتُه في مجال المعرفة والفكر، لأن الإنتاج في المجال الثقافي ربما يستفاد منه بعد حين ، أما الإنجاز الإداري والعملي فإن المجتمع العربي لم يتهيأ له بعد. فالإنجاز في البيئة المتخلفة يصير عبئاً على صاحبه، أكثر مما هو شافعٌ له. فالنفوس المريضة المأخوذة بمصالحها الذاتية وبأهوائها المستغرقة، تختلق المثالب وتحجب المزايا، إنهم يحاربون بضراوة بكل أدوات التشويه والإرجاف والشائعات مَن يتوهمون أنه يعترض هذه المصالح مهما كانت غير مشروعة، أما عامة الناس فإن هؤلاء الأنانيين يتلاعبون بعواطفهم، فتجدهم يتذبذبون معهم من أقصى حالات القبول إلى أقصى حالات الرفض، من دون أن يشعروا بهذا التناقض البليد. ومن ناحية أخرى فإن الناس في المجتمع العربي عموماً وفي المجتمع السعودي خصوصاً، قد اعتادوا على الشكوى والتذمر والتجريح والثلب والانتقاص، حتى حين يكونون أمام إنجاز رائع أو جهد بديع فلا تجد من يُثني على جهد مخلص أو يغتبط بإنجاز جيد، بل إنه من السهل أن يتحوَّلوا من الثناء الذي بنوه على المعايشة والوقائع الحية المشاهدة، إلى ذم الشيء ذاته أو القدح بالجهد نفسه، انقياداً مع هوى طارئ أو تأثُّراً بشائعة فاجرة، ومع هذا التأرجح الصارخ فإنهم لا يحسون بأي تناقض. من لم يعايش ما تصف، لا يتصور أن الحال بهذه الدرجة من السوء ؟ - بل هي أسوأ من ذلك بكثير، غير أنه لا يمكن أن يتصور الحال إلا مَن عانى ضراوة أهل الأهواء، وكابد تأرجُح الناس واندفاعهم خلف إرجافات أهل المصالح الأنانيين والمغرضين الجائرين. تأسيس علم الجهل ...تحليل بنية المجتمعات المتخلفة صدر لي كتابٌ منذ عشر سنوات بعنوان"بنية التخلف"ويتضمن موضوعات رئيسة لبعض مكوَّنات بنية التخلف. وليس ذلك الكتاب سوى مدخل أو توطئة لمشروع كبير عن هذه البنية، التي هي كيانٌ شديد التعقيد وكثير التشعُّب. والواقعون تحت ضغط هذه البنية لا يعرفون طبيعتها الخانقة، بل يعتبرونها مصدر فخرهم وحافظ كيانهم، لذلك لا يكفي أن نكشف عناصر هذه البنية ونبيَّن مكوَّناتها، وإنما لا بد من إجراء مقارنة بين ثقافة التخلف وثقافة الإزدهار، وهذا يقتضي أن يكون البحث شاملاً. إن المجتمعات المتخلفة تجهل أسباب تخلفها، بل تنكر هذه الأسباب الحقيقية، وهذا يستوجب إنشاء علم جديد يحلل هذا الجهل، وهو ما أحاول إنجازه في عنوان" تأسيس علم الجهل". كما أننا نجهل الدور الحاسم للقيم، ونجهل أنها هي التي تحدَّد اهتمامات الأفراد والمجتمعات، وهي التي تستبقي المجتمع متخلَّفاً أو تصعد به نحو الإزدهار، وفي هذا الصدد قدَّمْتُ نظرية عن"عبقرية الاهتمام"، وأرفقتها بشواهد كثيرة لإثبات النظرية، وعموماً فإن الموضوع الذي اشتغل عليه واسع ومتفرع ، وله أبعاد كثيرة لذلك تأخَّر إصدار الكتاب الذي سيكون من أجزاء عدة، أو كتب عدة يمكن قراءة كل كتاب على حدة، لأنه يتناول موضوعاً اعتاد الناس أن يعتبروه مستقلاً، ويمكن قراءتها كأجزاء يكمل بعضها بعضاً، لأنها تتضمن الرؤية التي توصلتُ إليها عن إمكانات العقل ونقائصه، وعن سطوة العواطف والعلاقة الوثيقة بينها وبين العقل، وعن الفرد والمجتمع والتاريخ والثقافة والحضارة والفلسفة والتنوير والشك والوثوق والعلم والتعليم، وعن مشروعية الخطأ، وعن العادات الفكرية والسلوكية، وعن الأداء العلمي والعملي، والفرق بين المعلومات والمهارات وعن القيادة والانقياد والإبداع والاتباع، وعن خطورة التفكير الثنائي، وعن مبدأ الترجيح بصفته معيار الحكم على الأفكار والأشخاص والأعمال والمواقف والأوضاع، وعن التفكير المدرسي وخطره في تنويم العقل، وغير ذلك مما يقتضيه تحليل بنية التخلف، أو ما يستوجبه التعرُّف على أسباب التقدم وعوامل الازدهار. العرب يفاخرون بفلاسفتهم الذين نبذوهم في كل العصور في شبابي كنتُ ابتهج حين أجد كتاباً، يشيد بفضل العلماء والفلاسفة العرب على الحضارة الغربية، واقتنيت وقرأت كتُباً كثيرة في هذا المجال، وربما لم يَفُتْني شيء من هذه الكتب الفخرية التقريظية حتى كوَّنتُ منها جناحاً في مكتبتي الخاصة، ولكنني بعد القراءة وإمعان البحث وجدتُ أن كل العلماء والفلاسفة العرب الذين انتقلتْ آثارهم إلى أوروبا، كانوا أساساً قد تعلموا على الفكر اليوناني. فالرشدية على سبيل المثال هي الأبرز تأثيراً على أوروبا، ومعلوم أن ابن رشد ليس أكثر من شارح لأرسطو. فالرشدية التي استعادها الأوروبيون هي بضاعتهم رُدَّتْ إليهم، ولم أجد أحداً شذَّ عن هذه القاعدة، لا من الفلاسفة كابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي والرازي وغيرهم، ولا من العلماء كابن الهيثم وجابر بن حيان وابن النفيس وغيرهم. ثم إننا نفاخر الغرب بفلاسفة وعلماء كانوا وما زالوا منبوذين ومُدانين عندنا، فابن رشد جرى إحراق كتبه، فهو وأمثاله من الفلاسفة والعلماء كانوا خارج النسق الثقافي العربي، إنهم أفرادٌ كانوا منعزلين وليسوا امتداداً لتيار سابق لهم، ولم يتكوَّن بعدهم مدارس تواصل مسيرتهم، وإنما هم أفرادٌ خَلَوا بأنفسهم وانفصلوا عن الثقافة السائدة، وأبدعوا ولم يهتم العرب بإبداعاتهم بل دانت الثقافة العربية هذه الإبداعات. ومن المعلوم أن المبدعين يظهرون في كل المجتمعات حتى لو كانت متخلفة، ولكن هناك ثقافات تتيح لهم التأثير وتستجيب لهم فتتقدم، وهناك ثقافات أخرى تعزل المبدعين ولا تستجيب لهم بل تحاربهم وتخيف جماهيرها منهم، فيموتون كمداً من دون أن يتركوا في الثقافة والمجتمع أثراً فاعلاً، بل يكون تأثيرهم عكسياً لأن الحرب الثقافية التي تُشَنُّ عليهم تبقى حية ومتداولة وتتوارثها الأجيال على مر العصور، وهذا هو شأن الفلاسفة والعلماء العرب، خلال التاريخ العربي. فالأصح أن لا نتباهى بأولئك المبدعين لأن رفْضَنا لهم وعدم تأثُّرنا بهم، يجعل نسبتهم إلينا من المثالب التي يجب علينا الاعتذار عنها، وليست من المناقب التي يحق لنا التباهي بها. إن مرور كل أولئك المبدعين واستمرار هذا الرفض لهم طوال القرون، ليس مدعاة للتباهي وإنما هو فضيحة ثقافية شنيعة، فهو شاهدٌ على عجز الثقافة العربية عن استيعاب الإبداعات، وعدم قدرة العرب على إدراك قيمة المبدعين بل ومحاربتهم للإبداع والمبدعين.