من ضمن مقيدات كلمة «المتشابه» في السياق العلمي في علوم القرآن، مقيّدان: المتشابه اللفظي، والمتشابه المعنويّ. أمّا «المتشابه اللفظي» فهو تشابه يهم الحفّاظ لإتقان الحفظ؛ فاهتم به العلماء كثيراً منذ البدايات، كالإمام الكسائي، وما اتصل به من طرائق للضبط وتقعيده، وحتى بعد تبلوره وفق البلاغة، رغم فترة الانقطاع التي رثاها أبو موسى مشيراً إلى تفلّت نظرية النظم عند الجرجاني من أيدي البلاغيين، لانشغالهم عن «التشابه اللفظيّ»: «وقد تفلت من أيدي البلاغيين لأنهم انصرفوا إلى مدارسة تراث الشيخ في جانبه النظري ولم يلتفتوا إلى المناحي التطبيقية لمنهجه. وأعني بذلك الدراسات التي سميت في علوم القرآن بالمتشابه اللفظي، وهي غير المتشابه الذي يذكر في مقابل المحكم، والمراد بها تلك الأساليب المتشابهة في الكتاب العزيز... ترتبط بالسياق ارتباطاً بالغ الدقة والشفافية، والكشف عنها يحتاج إلى مهارة ووعي، وإحاطة شاملة، وليس هناك أدخل في باب البلاغة العالية من مثل هذه البحوث». في حين «التشابه المعنويّ»؛ ربما ظهر في كتب منها كتب ترد الشبهات عن القرآن والإسلام عامة، شبهات نفذت من خلال «المتشابهات»، ككتاب «ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل» للغرناطيّ. فهذا التشابه المعنوي هو «المتشابه» الذي يقابل «المحكم»، ومعتمد التسمية هو قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» ، وقد باتت هذه الآية من أهم التقاطعات بين علمي «علوم القرآن» و»علم الكلام»، وفق التناول البياني المؤول لهذه الآية، ومن هذا المدخل البياني بيّن د. النويري أن نشأة البلاغة جاءت من هذا المتشابه في القرآن، وكذا في الحديث الشريف، إذ المسألة التي اختلفوا فيها كثيراً في الزمن المتقدم هي مسألة «المجاز» (ومعلوم أن «الإعجاز» أوائل أسس علم البلاغة وفق الأثر الكلاميّ، ومن ثم تولدت أطر بلاغية-كلامية، منها: مسألة «المجاز»، بعد تبلورها المتأخر لمقابلة «الحقيقة)، مُرجعاً تأسيس علم البلاغة لأثر السياق الجدلي الكلامي، يقول: «إن متشابه القرآن ومشكل الحديث كانا من الأسباب التي حملت المتكلمين من مختلف الفرق على أن يجدوا مخرجاً يخلص المقالة العقدية من المزالق التي يمكن أن تسقط فيها، فكان «المجاز» الإطار النظري، والمنهج العملي الكفيل بأن يجنب المعتقد هوى الإشراك والتشبيه والتجسيد. وهكذا أصبح القول بالمجاز بالنسبة إلى المعتزلة والسنّة على حد سواء جزءاً من الإيمان وخطوة في طريق النجاة، فلم يكن المعتزلة -رغم ريادتهم وأهمية عملهم- هم وحدهم الذين توسلوا بمفهوم المجاز؛ الذي كان منهجاً لتأويلات مختلفة تتماشى واتجاهات في الاعتقاد مختلفة. ولقد كان حرياً بنا أن نرد المسألة إلى جو الصراع العقدي الذي نشأت فيه، حتى نفهم النسق الفكري المتحكم فيها، بدل إصدار الأحكام المعيارية التي تسعى إلى أن تسلب البلاغيين العرب مزية الشغل البلاغي». ولأن التداخل سمة العلوم الإسلاميّة، فإن افتكاك البلاغة من الأثر الكلامي للفصل بين المقتضى العلمي، والتوجيه العقدي؛ من الصعوبة بمكان، إذ أسسها وأعلامها كانوا من الموغلين في علم الكلام، على عظيم ما قدّموا من خدمة للغة الكتاب الكريم، لكن تبقى أهمية استحضار أنّ مشكلة «التشابه المعنويّ» المؤسسة من أهم الأصول، التي انسدلت منها تلك المعالجات حتى وصلت إلى زمننا المعاصر، وذهبت أسباب الاختلاف الأولى التي أوقدته، وتشبثت المدارس بالمخرجات والمطوّرات، والقوالب والآلات التي تخرّج الأقوال، واستند المعطى الكلامي على المستوى البياني. وقوالب الفهم اللغوي ومذاهبه لا تقل أهميّة -إن لم تكن المؤثر الأكبر- عن مذاهب العلوم العقدية أو الفقهية أو الشرعية والعربية عامة، فالمذاهب اللغوية الأولى مرهونة بالموجهات العقدية والعلميّة للمؤسسين الأوائل. فهل هناك خطّ تأويلي جديد على المستوى البياني؟