هل استفاد الفيلسوف ذائع الصيت فتجنشتاين من آراء ابن تيمية فيما يتعلّق بنظرية الاستعمال (البراجماتيكس) في فلسفة اللغة؟ سؤال قد يبدو غريباً - كغرابة سلوك فتجنشتاين نفسه! إذ ليس من المعروف عن ذلك الفيلسوف غريب الأطوار سعة اطلاعه بشكل عام، ولا اهتمامه بابن تيمية بشكل خاص. لكن ما الذي يدعوني لطرح هذا السؤال؟ خلافاً للتناول السطحي الذي تناول به بعض الباحثين الموضوع، فقد نُشر بحثان في موضوع المجاز، الأول باللغة العربية في (مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغات)، (مايو 2016) الدكتور محمد محمد يونس علي الأستاذ في جامعة الشارقة، والثاني باللغة الإنجليزية نشرتها مجلة The Muslim World (سبتمبر، 2018) للباحث عبد الرحمن مصطفى بعنوان Ibn Taymiyyah الجزيرة Wittgenstein on Language . وفي هذين البحثين يؤكد الباحثان التشابه الكبير - وربما التطابق - بين آراء فيلسوف اللغة فتنجنشتاين وشيخ الإسلام ابن تيمية في نظرية الاستعمال لتفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى، وبعض القضايا المتعلقة بها. وسوف أعتمد على الدراسة الثانية - دراسة مصطفى - لشمولها وتفصيلها ولأنها متأخرة (رغم أن الباحث لم يُشر إلى دراسة محمد علي). يشير مصطفى إلى توافق فتجنشتاين مع ابن تيمية في نقد المنطق الأرسطي، ويرى أن رفض ابن تيمية للمجاز - ونظرية المواضعة في اللغة - نابع من هذا الرفض للرؤية الأرسطية للغة والمعنى. كما يرى أن فتجنشتاين يرفض نظرية الإشارة التي تبناها الفيلسوف القروسطي أوجستين في تفسير المعنى، ويطرح بديلاً عنها نظرية (الاستعمال) وهي عين النظرية التي طرحها ابن تيمية وتوسع فيها تلميذه ابن القيم في سياق ردهما على القائلين بالمجاز. فابن تيمية يرى أن اللفظ يكتسب معناه من (استعمال) الناس له في سياق معين. وبالتالي فليس هناك مواضعة على معنى أصلي وانتقال لمعنى مجازي. ولا يخفى الأثر الكبير الذي أحدثه فتنجشتاين في الفلسفة بشكل عام من خلال رؤيته هذه للمعنى، والتي استقاها من فريجيه. ابن تيمية يعارض الرؤية التواضعية التي ترى أن الناس يتوافقون على معنى أساسي للفظ (ويكون حقيقة) ثم إذا استخدم في سياق آخر بمعنى آخر يكون مجازاً. ويرى أن هذا التفريق بين الحقيقة والمجاز بناءً على هذه (المواضعة) ليس عليه دليل، ولا يمكن إثباته ولم يُشر له أحد من اللغويين قبل المعتزلة (الذين وظّفوه في دعم آرائهم العقدية). ويضيف مصطفى أن موقف ابن تيمية هذا « يأتي أيضاً من اعتراض ابن تيمية التقليدي على التوجه الأرسطي.» فابن تيمية يرى أن المعنى يمكن معرفته دون «التعريف»، «إذاً إن من يصوغ التعريف لا بد أن يكون قد عرَف الشيء الذي يريد تعريفه قبل أن يعرّفه». وبحسب مصطفى «يقدم ابن تيمية واحدة من أكبر إسهاماته وأكثرها أصالة في علم اللغة، وهي مقولة إن الكلمة بذاتها غير قادرة على إيصال المعنى. وعلى الرغم من أن بعض العلماء قد أبدو شيئاً من التحفظ على نظرية المواضعة ... إلا أن ابن تيمية يبدو أنه أول عالم في الفكر الإسلامي يبدأ هجوماً منظماً على مفهوم المعنى.» ويقرَّر مصطفى أن ابن تيمية يسوق اعتراضين على دعوى المواضعة: الأول «ليس هناك دليل على أن من يتحدث لغة قد اجتمعوا لصياغة جميع الألفاظ التي تدل على الأشياء في تلك اللغة ...، والثاني، وهنا يظهر ارتباط نقد ابن تيمية لنظرية المواضعة اللغوية بنقده للأدوات المعرفية (الابستيمية) للفكر الأرسطي وتفضيلها للحد [التعريف] مصدراً للمعرفة. فابن تيمية - وتلميذه ابن القيم - يجادلان أن المواضعة على معنى الكلمات لا تظهر قبل استعمال اللغة بطرق تكون قد أوصلت المعنى.» فابن تيمية يرى أن الألفاظ تأخذ معانيها من الاستعمال وليس من الحدود.» وهو ما قال به فتجنشتاين فيما بعد. ويرى مصطفى «أن فتجنشتاين أظهر فكرة كانت موجودة عند ابن تيمية وهي أن معنى اللغة يأتي من الاستعمال.» كما يرى أن فتجنشتاين يشارك ابن تيمية في نقد التوجه الأرسطي، الذي يعد أساساً للقول بنظرية المواضعة. إلى هنا واحتمال اطلاع فتنجشتاين على آراء ابن تيمية، فيما يتعلّق بالموقف من المنطق الأرسطي ونظرية الاستعمال في تفسير المعنى، يبقى احتمالاً ضعيفاً، إذا إن الأفكار ربما تتطابق دون قصد. لكن من الغريب أن مصطفى في سياق حديثه عن هذا التطابق أشار إلى أن فتجنشتاين انتقد موقف الفلاسفة بإعلائهم لدور (الكليات الذهنية) في تفسيرهم للمعنى، وقلة اهتمامهم بالأمور العينية. ومن المعروف أن ابن تيمية انتقد الفلاسفة طويلاً بتركيزهم على الكليات الذهنية، وربط المعاني بها وتجاهُلِ الجزئيات العينية، التي يرى أنها هي مصدر العلم الحسي، بل إن ابن تيمية ساق في إحدى رسائله مثالاً على تعريف الأشياء وقال إنه قد يسأل أعجمي عن معنى الرغيف loaf فيشار إلى رغيف ويقال (هذا)، واستخدم فتجنشتاين نفس الطريقة فقال لو سأل سائل عن ورقة الشجرة leaf كفى في تعريفها الإشارة إليها. إن أي قارئ للبحثين لا يملك نفسه من الاندهاش من هذا التوافق، مع الاختلاف بين مجالي تخصصهما. فهل يمكن أن تحدث هذه التوافقات من باب (وقع الحافر على الحافر) وتوارد الخواطر؟! وهل يدعو هذا إلى إعادة النظر في موقف ابن تيمية من المجاز، والتخلي عن النظرة السطحية لدى بعض البلاغيين لموقف ابن تيمية؟ على أي حال، فتشابه آراء فتجنشتاين مع آراء ابن تيمية في دور (الاستعمال) في تحديد المعنى حريّ بالدراسة المعمقة. ويؤكد هذا قول د. محمد علي: «إن النظرة الفاحصة لآرائه [- أي ابن تيمية-] في الموضوع تكشف عمقاً فلسفياً في مقاربته لثنائية الحقيقة والمجاز تتجاوز النظرة السطحية [عند بعض البلاغيين المعاصرين] لتلك الآراء وتلخيصها على نحو مبتور بأنها مجرد إنكار تحكمي لوقوع المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم، ولعل أهم الأخطاء التي وقع فيها منتقدوه أنهم عزلوا آراءه في موضوع المجاز عن نظرياته في اللغة والسياق والاستعمال [وربما لم يفهموها]، فضلاً عن قطع صلتها بمواقفه الأنطولوجية والإبستيمولوجية.» ** **