صحيح أن الكاتب السعودي مقبول العلوي يستمد قصصه من الحياة اليومية السعودية، إلا أن التفاصيل التي يلتقطها قد تصلح لكل بيئة في عالمنا العربي. ولعل السمة التي تسم جميع قصص مجموعته الجديدة «تدريبات شاقة على الاستغناء»، الصادرة حديثاً عن دار نوفل – هاشيت أنطوان، هي وفاء هذا الكاتب لتكوينه الأول معلّماً للتربية الفنية، وإيمانه العميق بأن «هناك جوانب أخرى للحياة أكثر أهمية وعذوبة»، هي «مُتع مثل اللحظات السعيدة تُمنَح ولا تُباع»، و»تجعل الحياة شأناً قابلاً للاحتمال». هي متع بسيطة مثل القراءة والحب والوفاء والامتنان والتصالح مع الذات! على مدى 120 صفحة، تضم 14 قصة تختلف موضوعاتها وثيماتها، أثبت مقبول العلوي (مجدداً) قدرته المذهلة على تطويع اللغة بسلاسة وعذوبة. في «تقرير سرّي عن زينة»، يأخذنا العلوي بلغة شعبية إلى تلك الحارات المحافظة، قبل أن ينقلنا في «زعيرات الشمّاعين» بقدرته اللغوية التي يستعير فيها لغة كتب التراث السجعية، إلى زمن سحيق حين كان الفندق يسمى خاناً مثلاً. ثمة مقالة بليغة وبديعة تحاكي لغة القرن التاسع الهجري على طريقة المؤرخ المقريزي. بعدها، يعيدنا «في الأيام الخمسة الأولى للعزلة» إلى زمن قريب حين عزل وباء كورونا البشر في بيوتهم، لا نافذة لهم على العالم سوى رسائل الواتس أب. في كثير من القصص تنطق الشخصيات بحكمٍ تصلح لأن تكون دروساً في الحياة، في قصة «الواقفون على عتبات البهجة»، والتي يُهيأ للقارئ بأنها الأكثر شبهاً بالعلوي، حيث إن بطل القصة أستاذ مرهف يعشق الموسيقى، يخلص الكاتب، بعفوية وتلقائية، إلى أن محبة الناس مكسب لن تناله ما لم تتصالح مع نفسك. ففي وصفه للأستاذ مجيد، بطل القصة، يقول العلوي: «كان أستاذاً محبوباً، كان متصالحاً مع نفسه ومع الآخرين بل مع الدنيا برمتها». أما طلاب الأستاذ مجيد فيقولون إن «المشكلة تكمن في تشبّثنا بمواقفنا... ومطالبتنا الآخرين بالتغيّر دون أن نبادر إلى تغيير شيء من أخطائنا». في قصة «المؤتمر الأدبي»، يخلص البطل إلى أن من «أراد أن يتخلى عنك بلا جريرة اقترفتها، دلّه على الباب، لا بل افتحه له». في هذه القصة يعبّر العلوي عن مفهومه للقصة القصيرة، باعتبارها فناً عصيّاً «لا يتقنه إلا من يمنحه كل الاهتمام مع الاستمرار بتطوير الذات» والتبحّر المتواصل في هذا النوع الأدبي والاسترشاد بالموهوبين.. طبعاً، ليست هذه القصة درساً في هذا النوع الأدبي، وإنما تعرية للكثير من مدّعي الثقافة، الذين لا يتوانون عن سرقة أعمال غيرهم طمعاً بالشهرة. ثمة ثيمة تتكرر في أكثر من قصة، وهي أهمية القراءة والكتب: «يوم عصيب في حياة الآنسة ريم»، و»صندوق جدي القديم»، و»سردية قصيرة لوداع مبكر»، إلا أن ما يميّز هذه الأخيرة طرافتها، حيث تتحدث أيضاً عن القهوة وكيف اكتشفها راعٍ للغنم، وعن أول ظهور لها كمشروب في الديار المصرية، وانتشارها بين المتصوفين، وكيف حرّمها الأزهر بأمر من السلطان المملوكي قانصوه الغوري. يتناول العلوي في قصة «أمثولة الذاكرة الهشة وهواجسها»، ثيمة الشيخوخة ويحكي فيها قصة مسن يراجع طبيبا، فتفتنه موظفة الاستقبال، و»لوهلة غدت الحياة برمّتها شأناً قابلاً للاحتمال». أما «في ديستوبيا القرى المعزولة»، فيطرح الكاتب موضوع صناعة الولي الصالح، في حين يتناول في «كلمات محذوفة من حديث قصير» معضلة زواج الأخت الكبرى قبل الصغرى. ثمة قصة عن الوفاء والحب العظيم، وقصة طريفة جداً عن محتال يداوم في مناسبات الأفراح والأتراح. ملامح: مقبول العلوي روائي وقاصّ سعوديّ (مواليد 1968)، يعمل مدرّسًا، له ستّ روايات، من بينها «زرياب» التي نالت جائزة أفضل رواية في معرض الرياض (2015)، و»البدوي الصغير» الحائزة جائزة سوق عكاظ (2016)، وثلاث مجموعات قصصيّة منها «القبطي» التي نالت جائزة الطيب صالح (2016).حسين الحربي