عامان مضيا على رحيلك يا أبا تركي، وما زالت الذكرى حيّة كأنها حدثت بالأمس، وما زال الحزن مقيمًا في أعماقي، لم يهدأ ولم يتبدد، بل كبر معي واستوطنني كلما أدركت أنني لن أراك مجددًا، لن أسمع صوتك، ولن أستمتع بأحاديثك التي كانت تبعث الدفء والطمأنينة في قلبي. رحلت، ولكن رحيلك لم يكن مجرد غياب عابر، بل كان خسارة فادحة تركت أثرًا لا يمحى في نفسي. لم يكن موتك مجرد خبر تناقلته الصحف والمجالس، بل كان صدمةً هزّتني، وجرحًا لم يندمل، وحرقةً لا تهدأ، ودمعةً لا تجف. كنتَ بالنسبة لي أكثر من مجرد قريب، كنت الأب الروحي، والسند، والمعلم، كنت الملاذ الذي ألجأ إليه حين تضيق بي الدنيا، كنت القلب الكبير الذي يسع الجميع، كنت الكتف الذي يسند من يحتاج، والكلمة الطيبة التي تخفف الألم. وما يزيد ألمي أنك رحلت وأنا بعيد عنك، لم أكن هناك في لحظاتك الأخيرة، لم أتمكن من الإمساك بيدك، ولم ألقِ عليك النظرة الأخيرة، ولم أشارك في تشييعك، وهذا وجع لا يعرفه إلا من ذاق مرارة الفقد عن بُعد. كيف لي أن أستوعب أنك غادرت دون أن أودعك؟ كيف لي أن أتقبل أنك دفنت، بينما كنت أنا في مكان آخر، عاجزًا عن الوصول إليك؟ هذا الشعور يلاحقني كل يوم، يثقل كاهلي، ويعيد إليّ الحزن مضاعفًا. لكن رغم هذا الألم، هناك عزاء يخفف من حزني، وهو أنك تركت خلفك من يحملون إرثك بكل وفاء وإخلاص، أبناءك تركي ومحمد، اللذين سارا على خطاك، وحملا الأمانة من بعدك، ليكملا مسيرتك في العطاء والوفاء والكرم. أراهما فأرى فيهما ملامحك، وأسمع أصواتهما فألمح فيهما رجع صدى صوتك، وأتابع خطواتهما فأشعر أنك لا تزال حاضرًا بيننا، بروحك، بمبادئك، وبالقيم التي غرستها فيهما. كنت رجلًا نادرًا في هذا الزمن الذي قلّ فيه الرجال الحقيقيون، كنت من أولئك الذين يتركون أثرًا خالدًا في قلوب من عرفوهم، لم تكن حياتك عادية، ولم يكن وجودك عابرًا، بل كنت ملهمًا ومؤثرًا، كنت حاضرًا في قلوبنا قبل مجالسنا، وكنت عزيزًا ليس فقط على أهلك، بل على كل من عرفك. لا أنسى كيف كنت تفتح قلبك وبيتك للجميع، كيف كنت تعطي دون أن تنتظر مقابلًا، وكيف كنت تسعد عندما تساعد أحدًا، وكأنك أنت صاحب الحاجة. لا تزال كلماتك الدافئة ترنّ في أذني، ولا تزال ابتسامتك تعيش في ذاكرتي، ولا تزال ذكرياتك تسكن وجداني. وفي عالم الصحافة، كنت أكثر من مجرد كاتب أو إداري، كنت رمزًا للالتزام والمهنية، كنت تحمل قلمك كمن يحمل سلاحًا، تدافع عن الحق، وتنقل الحقيقة، وتؤدي رسالتك بكل حب وإخلاص. لم يكن العمل بالنسبة لك مجرد وظيفة، بل كان رسالة، وأديتها على أكمل وجه، حتى آخر يوم في حياتك. كانت الصحافة بالنسبة لك ميدانًا للشرف والنضال، كنت مثالًا للصحفي النزيه كنت جزءًا من تاريخها، وشاهدًا على تطورها، ساهمت في بناء أجيال من الإعلاميين الذين تعلموا منك كيف يكون الصحفي الحقيقي، وكيف يكون القلم مسؤولية قبل أن يكون مهنة. اليوم، ونحن نجدد ذكراك، أجد نفسي عاجزًا عن التعبير عن حزني العميق، كيف لي أن أكتب عنك بصيغة الماضي وأنت حاضر في كل تفاصيل حياتي؟ كيف لي أن أصدق أنني لن أسمع صوتك مجددًا؟ كيف لي أن أتقبل أنك لم تعد بيننا؟ رحمك الله يا عمي الغالي.