مذ رحلتَ وأنا أحاول جمع قوى أبجديتي؛ علّني أكتب عنك.. وأفشل.. فحين يكون من نكتب عنه أعظم مما نملك من لغة.. لا نملك إلا أن نعتنق الصمت خشية أن ننبش ألماً لا يلتئم.. - حين يكون الحديث (أنت) تصبح المفردات غصة! وكلما جاء ذكرك أتجنب - حرقة - كلمات الفقد (مات، توفي...)، وإن أجبرني السياق يتعثر بها لساني..! ما يؤلمني أنني كلما حاولتُ تناسي حزني لغيابك أجدني أغرق «به» أكثر.. ما يؤلمني أنني في كل صورة تجمعنا أكاد أشعر بلمستك فيها.. وفي كل مكان لك أثر يفوح بك ذكراً، فكيف بي أن أسلى عن فقدك..؟! كيف وذلك الشبه الكبير الذي أشعره بيننا، في اهتماماتنا بالشعر والكتب واللغات ووو.. يا الله، كم ترتبط بك تفاصيلي بعمق بات موجعاً.. كم أنت رجل استثنائي.. عظيم..! تمطر كل من حولك بابتسامتك الجميلة التي لم تفارق محياك حتى في قمة مرضك.. زرعت فيّ حب الحياة والطبيعة والآخرين بغض النظر عن اختلافهم عنا.. علَّمتني كيف يمكننا بابتسامة صادقة وتواضع خلق أن نُفرح قلب مسكين عابر.. فهمت منك أن السعادة ليست غاية نصل إليها، بل حياة نعيشها ونحن نناضل من أجل قيمنا وأهدافنا.. كلما أتذكر أحاديثك التي لا تمل، والورود التي تمطرنا بها في كل حين، والقصائد التي تتجدد جمالاً كلما تغنيت بها بالرغم من حفظي لها عن ظهر حب.. كلما أتذكر كيف كنت حضناً يحتويني حباً وأمناً.. وكلما أتذكر آخر أيامك معنا، في قمة مرضك، كيف كان ذكر الله لا يفارق لسانك ساعة.. كلما أتذكر تفاصيل حياتك أتمنى لو كنت قد عشتها معك لحظة بلحظة.. أتمنى لو كنت مثلك تماماً.. أي رجل أنت.. بل أي وطن أنت يا أبي..! لو كنت أعرف أنني حين رتبت حقيبة سفرك أنك ستعود جسداً بلا روح لخبأتني فيها! رحيلك.. حدث كوني..! أشعر بأن كل التفاصيل التي عشتها، وكل الأماكن التي مررت بها.. وكل نبتة صغيرة، وكل روح تتنفس.. تشاركني حزني لرحيلك.. من للمسجد الذي كنت تؤذن فيه، وتطيبه بأفخر العود..؟ من لتلك الخضرة التي كنت سقيا فرح لها قبل أن يكون الماء ريها.. من للمساكين الذين كنت تحرص على رسم الفرح في قلوبهم بهداياك..؟ من للمغتربين الذين كنت تعايدهم بحب حتى قبل أن تشاركنا عيدنا؟ من لكل أرض وطئتها قدماك؟ من لنا بعدك..! من لبنيتك بعدك..؟!! أتعرف يا أبي.. في العين أرق يفضح حزني لغيابك.. وإن تكلفت الابتسام.. مذ رحلت والنوم يهرب مني حتى ساعات الصباح الأولى أرقاً، ولا أستكين حتى أتنفس ملامحك وصوتك ورائحتك التي لا تزال في كل هدية منك! مذ رحلت وشيء كبير فيّ انكسر.. كم هو الفقد مؤلم! مذ رحلت وأنا أمر من غرفتك ومن عمق حزني أكاد أسمع صوتك فيها..! أفتقدك أكثر من قدرتي على احتمال غيابك يا أبي..! (يعز عليّ حين أدير عيني أفتش في مكانك لا أراك) ولكن عزائي.. إيماني بأننا ما نحن على هذه الأرض إلا ضيوف عابرون.. كثير هم الذين عبروا من هنا ورحلوا نسياً منسياً.. وقليل من عبروا وتركوا أثراً طيباً أنبت من الشجر أنفعه؛ فلا يمر به جائع إلا وشبع من ثمره، ولا مستظل إلا وتفيأ كرمه وحنوه.. كثير من مروا على الأرض ودمروها، أو وكأنهم لم يمروا، وقليل هم الذين عمروها كرماً وطيباً.. وأنت أندرهم يا أبي.. فمشاهد الصلاة عليك وذلك الجمع الغفير من البشر الذي فاض به الجامع.. بشر لا أعرف كيف ملكت قلوبهم للحد الذي تفيض أعينهم من الدمع حزناً عليك، وتسمو قلوبهم بدعوات لك.. لم تترك فقيراً أو غنياً، صغيراً أو كبيراً، عربياً أو أعجمياً إلا وتركت في ذاكرته طيب الذكر والأثر. والذين رافقوك ألماً ودمعاً حتى دفنك.. عرفت حينها أنني كنت أعرف جزءاً يسيراً من طيبك.. لست يتيمة يا أبي.. فاليتم ليس بفقد الوالدين.. بل بفقد رضاهما وبرهما فوق الأرض كانا أو فيها.. رحلت وقلبك عني راض، وسأعمل ما حييت على برك حتى بعد رحيلك.. - حريملاء