قرأت ليحيى بن أكثم (ت 280ه) قوله: "ليس يستقيم كتمان شيء إلا بإذاعة غيره، وإلا وقع الناس عليه"، وهي عبارة تختصر ببراعة أحد أكثر ممارسات توجيه الرأي العام دقة واحترافاً، وهو ما نُطلق عليه اليوم "فن التشتيت الإعلامي"، حيث لا يمكن إخفاء حدث أو قضية بشكل كامل، إلا إذا تم في المقابل إلقاء الضوء على قضايا أخرى تُلهي المتلقي وتصرفه عن جوهر الحقيقة. وهذا ما يُعرف ب"نظرية التشتيت الإعلامي"، وهي نظرية إعلامية تشير إلى أن صرف انتباه الجمهور لا يتم عبر القمع، بل عبر الإغراق والتوجيه؛ فالنجاح لا يكمن في إخفاء الحقيقة، بل في دفنها وسط طوفان من المواضيع المثيرة والمتلاحقة، وإغراق المتلقين حتى يتحول الضجيج إلى وسيلة أنيقة لإخماد الأسئلة. التحكم بالمعلومة لم يعد يقوم على الكتمان المباشر، بل على الإغراق وتشتيت الانتباه؛ من منطلق أنه إذا لم يُصرف انتباه الناس عن الشيء المخفي، فسيتعثرون به عاجلاً أم آجلاً؛ ولك أن تتأمل، على سبيل المثال، توقيت الكشف عن ملفات اغتيال كينيدي السرية، بالتزامن مع ليلة الهجوم الأخير على غزة؛ ليلتها أصبح الضجيج بديلاً عن التفسير، والإثارة بديلاً عن الأهمية.. حتى وجد المتلقي نفسه مُحاطاً بما يُقال له، لا بما يجب أن يعرفه. وهنا نحن أمام حقيقة أن الفضول البشري بطبيعته لا يُقمع، لكنه يُوجَّه؛ فلا حاجة لقمع السؤال، طالما يمكنك تعبئة الفضاء العام بإجابات عن أسئلة أخرى.. وهكذا، حين تعاني الدول من مشكلات اقتصادية أو اجتماعية، يُلقى بالأعين خارج الحدود: عدو خارجي، أزمة دولية، بطولة رياضية، أو حتى فضيحة فنية.. المهم ألا تبقى الأنظار حيث ينبغي؛ فليس من المصادفة أن تتقافز القضايا الغريبة على الشاشات، وما أن تخمد قضية اجتماعية حتى تُشعل أخرى رياضية، ثم فنية، وهكذا دواليك. فالتشتيت لا يعني أن الحقيقة غائبة، بل إنها مدفونة تحت وفرةٍ من القصص المبهرة، والثرثرة المنسّقة، والانفعالات المؤقتة.. وهكذا، تتآكل القضايا الجوهرية تدريجياً، ويضيع الشعور بالمسؤولية في زحام الانشغال الدائم بما يُصنع، لا بما نحتاجه فعلاً. صحيح أن "نظرية" يحيى بن أكثم تثبت أن "التشتيت الإعلامي" ليس اكتشافاً حديثاً، لكنه اليوم بات أكثر تعقيداً، وأكثر ذكاء، بفعل أدوات الإعلام الحديث، التي تجعل من كل قصة قابلة للتضخيم.. إذ لم تعد المشكلة في نقص المعلومات، بل في كمية الضجيج. وليس من الإنصاف اعتبار التشتيت الإعلامي شرّاً محضاً؛ فهو في جوهره أداة وسلاح، تعتمد عليه الدول والمؤسسات في إدارة الأزمات، لا سيما في اللحظات الحرجة؛ فكما أن هناك فنونًا للهجوم والدفاع، فالتشتيت أيضاً فن قائم بذاته، يحتاج إلى تجهيزات ذكية وكفاءات مدرَّبة، ويجب أن يكون حاضراً ضمن منظومات العمل الإعلامي، حيث لا يقل أهمية عن مراكز الرصد والتحليل والمراكز التي تُعنى بإدارة الأزمات؛ وذلك لمواجهة الحملات الإعلامية ولتوجيه الانتباه بما يخدم المصلحة العامة ويضمن تماسك المجتمع في أوقات الأزمات.