في حضرة الزمن الذي لا يشيخ، وبين الجدران تُروى حكايات الأجداد في «بيت عيسى» بعرقة، في رحلة مع الذاكرة اصطفت الروحانيات جنباً إلى جنب مع ملامح البساطة القديمة، في احتفاء جميل برمضان ولياليه بين الماضي والحاضر، تحت رعاية هيئة التراث بقيادة الأستاذة ابتسام الوهيبي، والأستاذ عبدالله بن كليب؛ حيث استحضرا رمضان، كما كان يعيشه أجدادنا، بكل ما فيه من بساطة وجمال. كيف لنا أن نُقارن ذلك الشعور ببهجة الحاضر التي لم تفقد روحها وإن اختلفت أشكالها، تحدث الجميع بشغف وتداخلت حكايات الأزمان، وتصافحت العادات والتقاليد في مشهد روحاني جميل. كان الحاضرون يحملون الكثير من القصص والعادات في ذاكرتهم ويريدون أن يتسابقوا في سردها، مستذكرين «فوازير رمضان» التي كُنا ننتظرها بشوق ونتسابق لتدوين إجاباتها إلى لمّة الأهل التي كانت حول سفرة عامرة بالحُب قبل أن تكون عامرة بالأطباق، يسبقهم صوت الأذان الذي ينساب بينهم بهدوء في لحظة مقدسة يتبادلون الأحاديث ويقصُّون أجمل المغامرات التي كانت خلال اليوم؛ وكيف كانت تجتمع الأعين حول التلفاز في انتظار برنامج «على مائدة الإفطار» للشيخ علي الطنطاوي -رحمة الله-. حقيقة هذه هي البساطة التي كُنا نعيشها في تلك اللحظات التي هي أكبر من مجرد تجمع عائلي إنما جزء لا يتجزء من هوية رمضان.. قلّبنا صفحات العادات والتاريخ متنقلين بين نجد بتقاليدها الأصيلة من لمّة الأهل والجيران وتوزيع الإفطار وانتظار مدفع رمضان إلى أهازيج الحجاز المدينية حيث يجتمع الأهل والجيران في ليالي رمضان، بترديد صدى الفلكلور الأصيل «سيدي شاهن خرقة مرقة يا أهل البيت ..» لم تكن مجرد أهازيج بل إيقاعاً للحياة تشعل البهجة في قلوب الكبار قبل الصغار، ثم عبرنا إلى ليالي المنطقة الشرقية حيثُ القهوة والتمور، وقصص الأجداد وسط ضحكات الحاضرين، أما الشوراع فتصدح بصوت الأطفال في ليالي «القرقيعان» يطرقون الأبواب وينشدون الأهازيج حاملين أكياس الحلوى، إلى الجنوب حيثُ تفوح رائحة البُن مع وهج الفوانيس حتى تعلوها الضحكات، أما شمالنا فتنبض البيوت بروحانية خاصة، واجتماع الأهل بتآلف يتشاركون ذكريات الصحراء التي لا تخلو من كرم الضيافة، كما كان للدول العربية الشقيقة مشاركة جميلة في الحديث حيث كان الأشقاء من لبنان الخضراء مشاركة عن (المسحراتي) لمسة إلى زمن كانت فيه الطبلة أهم من عقارب الساعة، يوقظ القلوب قبل الجسد. واُختتم هذا اللقاء برحلة مع الأستاذ بدر بن مقيل في «بيت عيسى»، كان وصفه لهذا البيت كحياة بالنسبة له فكان يصف المكان كالفصول الأربعة فكان كل دور من هذا المكان له مسمى مختلف، فكان هناك عدة طوابق أحدها، وهو الأول كان يسمى بالشتاء الذي يعكس صبر البدايات، ثم الطابق الذي يليه بالربيع الذي يزهر بالأمل في كل زاوية، ثم الذي يليه طابق الصيف الذي يروي حرارة الطموح، ثم رأينا بعضاً من البيوت التي تجاوز عمرها المئتي عام وعددها تقريباً عشرة بيوت وتم ترميمها وربطها ببعضها البعض بطريقه جعلت حجار الجدران تتلاقى بالحكايات، وأصبحت ذات جمال مختلف وربطها بجسر جميل يُسهل الانتقال يسمى (المجببّ) حقيقة جمال الوصف في السابق أدخلنا إلى عمق الحكاية وحبكتها حيث أصبحنا نتخيل كيف كان الجيران يترابطون بنسيجٍ من الألفة فحين تضيق المساحات كانت الأبواب تُفتح بلا تردد فيقال بلطف عفوي (لك غرفتي التي في الأعلى) أو (التي في ألأسفل) حيث كانت مروءتهم أساس العمران بالنسبة لهم، يتوسطهم بئر الماء الذي يتقاسمون قطراته ليستحموا بما يسمى (القرو). واصل الأستاذ بدر حديثه بسرد حكاية ضاربة في عمق التاريخ، التي هي مقبرة القدس التي تقف شاهدة على أكثر من 1450 عاماً من الزمن، لم يكن الاسم محض صدفة بل كان ارتباطه باتجاه القبور نحو القدس في أول الإسلام، وفي زمن مضى كان الحجاج يعبرون في طريقهم إلى مكة على هذه المقبرة لتبقى حاضرة بذاكرتها تحكي قصص العابرين. أما التطوير الذي شهدته هذه المنطقة وبالأخص «بيت عيسى» فهو أكثر من مجرد ترميم بل هو إحياء لذاكرة المكان فقد كانت فكرة (النُزل) الذي يستقبل الزوار من داخل المملكة وخارجها ليعيشوا تجربة فريدة تعيدهم إلى الزمن الجميل وتكشف لهم جانباً من حكاية سعودية في عصورٍ خلت، وتفرقت المقاهي التاريخية في الأرجاء، تحمل في كل زاوية منها دفء التراث لتكون كل زيارة لهذا المكان يرويها حجرٌ قديم وروحٌ متجددة. كل الامتنان لهيئة التراث، على إتاحة الفرصة لنا لتأمل هذا الجمال لماضينا بعيون حاضرنا، وتسليط الضوء على جزء أصيل من هويتنا الوطنية بطريقة مُلهمة تليق بمكانة التراث السعودي وتنسجم مع تطلعات رؤية 2030 هي ليست جهود للحفاظ على التاريخ وإظهاره لنا بشكل مختلف؛ إنما هو إحياء لروح الزمان والمكان ليبقى تراثاً حياً في القلوب لجميع الأجيال. خريطة عرقة القديمة الممرات والجدران تردد صدى التاريخ