في ينابيع العقل صورٌ كثيرة وآمالٌ جسيمة وفي القلبِ حياة متسعةٌ من البوح تقف على حافة الكلمة تبحث عن حرفٍ آخر؛ يصلح أن يكوّن جملة مفيدة، فإن حدثت فهذه هي الفلسفة التي تقيم بها حياتك، وإن تخلخل الميزان بجملتك أي نقص حرف ما؛ فلا يكون من أمرك إلا الشقاء والجلّد. فأفرق لنفسك بالًا وأفسح لمنطقك اتساعًا من الرحابة، وعش في دعةٍ من التفكير المطل من نافذة العقل إلى اتساع الكون وهالاته، فتقدح في شعاع النور رواياتٌ تهبط على قلبك من مشارق الأرض ومغاربها انفراجًا لا انغلاقًا. ولأن حياة الإنسان لها مواقيتها المحددة سلفًا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ) يختار طريق القلق والشك والضيقة لا يبسطها كما بَسَطت له الأرض، فالطبيعة التي تمدُ له اتساعًا وانفراجًا وتأملًا لا يراها بعين عقله ولا برحابة قلبه. وإنما ينظر إلى الأشياء بمنظارٍ ضيق فيضيق صدره وينطفئ شعاع النور في عقله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) لا يكون هناك إلا طريق واحد أن تتأمل الأشياء على طبيعتها المطبوعة فيها بذاتها الصورية التي تراها بعين بصيرتك لا أن تفسر ذواتها بشكٍ مريب، ولا ريب أن تصور الأمور بمنظارك الخاص ولكن بحدود المعقول أي كل شيءٍ بميزان. لا جرمَ أن التشعب بين الفرضيات والتوقعات التي ليس لها أسٌ يجعلها تنبثق من غير فلسفةٍ عقلية واضحة؛ مما يجعلنا نتخبط في وحلٍ من السُبل المشتتة عن طريق الحكمة الموصلة إلى الكلمة القويمة صاحبة الأمل المحسوس لا الأمل الزائف الغارق في الحُلم ليس له حدود إلا حدود المنام. وعلى حافة الصمت تُراجع النفس حكمتها لتنصت نحو الفلسفة المؤدية إلى اتزان الكلمة في جملة من الحياة الإنسانية، التي تسير في ركاب اللحظة الزمنية. والكلمة هي الأجل المعني في فهم الأشياء المنصتة في رحاب المكان. فأنت لا تعرف نفسك حق المعرفة إلا عندما تتأمل إلى الأشياء المحسوسة من حولك لتنبئك الطبيعة ما لك وما عليك. فالموجودات لم تُخلق عبثًا وحتى وهي في تطورها الطبيعي تُعطي لك رسالة بأنك تعيش في محيطٍ من الوجدان المُتغير، فأنت اليوم لست ذات الشخص في الأمس، فقط الثبات حين تنصت بين حركةٍ وأخرى بين كلمةٍ واختها.. لاحظ قلت أختها، لأنك حين تضع كلمةً مغايرة أو ناشزة يختل ميزان الصمت وهي الحكمة في وضع جملة الحياة بما تستحقها لا أن تنفيها. ولعل أصدق ما في القول في بيت المتنبي: وَوَضْعُ النَّدَى في مَوضِع السيفِ بالعُلا ... مُضِرُّ كوضعِ السيفِ في مَوضِع الندى أهذا هو حقًا ما تكون عليه الناس في ضع الأمور في نصابها؟ بلى هو ذاك المُحكم والفيصل في كل شؤوننا وأحوالنا ومقاييسنا وحتى في ذوات أنفسنا (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).