نصح العالم النفساني الشهير وليم جيمس تلاميذه في الفلسفة أن يكثروا من الاختلاف إلى العبادة. وكان يقول لهم إن اعتياد الذهاب إلى مكان هادئ يوحي بالتفكير والتأمل من شأنه أن يعين على صحة النظر واستقامته. وكان رأيه أن العبادة تشبه أن يجد المرء نفسه في زحام خانق، فيعمد إلى عتبة باب قريب تكون مرتفعة عن الأرض ويقف عليها، وينظر من فوق رؤوس الناس، ويشاهد ما يصنع الجمع في جملته، وحينئذ يستطيع أن ينزل مرة أخرى إلى الزحام، ويمضي في الاتجاه الصحيح. وكان وليم جيمس يستعمل التشبيه نفسه في الكلام عن التفكّر.. فإنه يرفعنا إلى ما فوق الاعتبارات التافهة، فيتسنى لنا أن نميز المهم من غير المهم، وعندئذ يتبدى لنا ما يكون في تجارب الحياة من معانٍ سامية.. ولا يحتاج المرء للشروع في التفكر إلا إلى دفع العقل في الطريق القويم، وهذا التوجيه الأول ينبغي أن يمضي بالعقل صعداً، وأن يوسع نطاق سبحه في النواحي العامة وغير الشخصية.. لا أن يهبط به ويطويه على نفسه، ويغريه بما هو خاص وشخصي. ويمل العقل التدبير العملي، ويضجره التفكير المحدود، فينصرف عن كل هذه الخواطر الضيقة بسهولة مدهشة، وخير وسيلة لاعتياد ذلك هو أن يفرد المرء فترات قصيرة يحصر ذهنه من خلالها في فكرة عامة مجردة، مثل طبيعة الجمال، أو معنى الحق، أو روح الشجاعة، أو مصير الجنس الإنساني، أو صفة الخلود، أو أي حقيقة من حقائق الدين الأبدية، أو أن يتناول جملة ملهمة، ويدع الجملة نفسها أو الفكرة المستمدة منها تدور في نفسه وتستقر. فربما خطر له تفسير جديد، فقد قيل إن كل عبارة صوفية لها سبعة وسبعون معنى. ومتى وجهت عباب الفكر وجهته، فامض مع التيار، ودعه يحملك إلى حيث يشاء، وكن متفرجاً ليس إلا. ولن تجد في أوقات الشدة، حين يزعجك القلق، أو تثقل عليك وطأة الحياة، وسيلة أجدى من التفكر، حتى تفوز بشيء من السكينة. ولست أعرف وسيلة افضل منها لاقتصاد الوقت والنشاط والجهد، وأكفل باستعادة سيطرة العقل. والتفكير ميسور لكل إنسان، بغض النظر عن السن والتجربة، وهو جزء مهم في الحياة الرشيدة التي تلهم القلب الرضى والسكينة، وتحمل السلام إلى النفس. ما الذي يحاول العالم النفساني العظيم وليم جيمس أن يعلّمه لتلاميذه في هذه الفلسفة.. إنه يشرح لهم معنى العبادة، وهو يوجههم إليها... على رغم أن المشهور المعروف عن الفلسفة هو عداؤها التقليدي للعبادة، ولكن وليم جيمس يرى رأياً جديداً في هذا الصدد، انه يرى أن الفلسفة والعبادة يعينان المرء على الخروج من سجن الذات إلى رحابة القضايا العامة. إن الفيلسوف رجل مشغول بالتفكير والتأمل، وكذلك العابد رجل مشغول بالفكر والتأمل. ولكي يمارس الفيلسوف مهمته في التفكير لا بد أن يخرج من ذاته ومشكلاته وقضاياه الخاصة. وهذا شأن العابد، إنه لكي يمارس مهمته في التعبد والتفكر لا بد له من الخلوة.. ولا بد له أن يخرج من زحام الحياة ومشكلاته اليومية. والهدف الذي يسعى إليه الفيلسوف كما يسعى إليه العابد أو الصوفي هو اكتشاف الاتجاه الصحيح والمضي في سبيله. إن الفلسفة في جوهرها لا تختلف عن الدين. إن الفلسفة هي مهنة البحث عن الحقيقة. وكذلك يبحث المتدين عن الحقيقة. إن تمييز المهم من غير المهم، هو هواية الفيلسوف وهواية الصوفي معاً. والحقائق المطلقة والأفكار العامة المجردة هي موضع اهتمام الفيلسوف والصوفي معاً. المشكلة هي كيف يخرج كل منهما من سجن الحياة اليومية ومتطلباتها المادية إلى رحابة عالم الفكر؟ إن الفيلسوف يقترح على تلاميذه أن يتعلموا القدرة على حصر اذهانهم في فكرة عامة مجردة، مثل مصير الجنس الإنساني أو صفة الخلود أو أي حقيقة من حقائق الدين الأبدية، وليترك كل واحد منهم الفكرة تحمله مثلما تحمل الأمواج جسداً سابحاً في المحيط. ويمكن القول إذاً إن الخروج من الذات هو الطريق المؤكد للعثور على الذات واكتشاف الحقيقة في الوقت نفسه.