يُمثل التفكير المؤامراتي نمطًا سطحيًّا ويائسًا للتّخفف من أعباء التحليل المنطقي والعلمي في طريقة بعضهم نحو استكشاف الحقيقة؛ حيث تتحرّى بعض النفوس بطبعها عن ما يقود إلى تفسير الأحداث والظواهر عبر التشبّث بأقرب فكرة تواطؤية كي تُبرّر لها ضلالاتها وتستنكف بها عن عجزها. فتجد هذه السرديّة من العقول المكتفية بأنماط التفكير الأدنى مرتعًا خصبًا لها. فأصحاب هذا النمط من التفكير يصبحون أدعياء على الحذاقة والحصافة أو يبدون في حالةٍ تشي بجهلٍ مُركّبٍ مستعصٍ، كونه تفكيرًا ينمُّ عن شكل من أشكال تعطّل قوى العقل على اعتبار أنّ الحقيقة من الضروري أن تبقى خفيّة، فهم يوظّفون حزمة من المغالطات المنطقية التي تستدعي الهروب إلى الأمام دائما، فيلجؤون إلى المصادرة على المطلوب عندما يُهملون مَحمولات عدد من المُقدِّمات، ومن ناحية أخرى قد يلجؤون إلى المغالطة الانتقائية عبر تحيُّزهم لما يخدم سرديتهم، أو يحتكمون إلى الجهل على اعتبار ألّا داحض لفكرتهم، أو يقعون في مغالطة الأصل بإصدارهم أحكامًا تُعهد للمصدر لا المحتوى، أو يرتمون على مغالطة المُنحدَر الزلق على افتراض أنّ حدثًا بسيطًا سيقود إلى كوارث حتميّة دون دليل، وغيرها من هذه المغالطات.. وصاحب هذا النمط من التفكير يُصرُّ دائما على وجود يدٍ خفيَّة عابثة تحيك المؤامرات لهذا العالم بأسره، وأنّه ما من وباء يطرأ أو حرب تقوم أو مشكلة تظهر إلا وهذه اليد الخفيّة الشريرة خلفها. يقول كارل بوبر: «الإيمان بالمؤامرة هو إيمان بالجهل وإنكارٌ لفوضى الطبيعة البشرية». والأغرب من ذلك كلّه أنّ صاحب هذا النمط من التفكير يظن أنّه يتحكّم بشكل الحقيقة ويُسيطر عليها عندما يُحيلها إلى مجهول، وأنّ الآخرين ليس بإمكانهم استيعابُها، ثم إنّه يُريح باله من عبء البحث عن الأسباب المنطقية، ويظن أنّه هو الوحيد القادر على كشف كواليس الأحداث؛ لذا نراه ذا شغف كبير بالمواقع المشبوهة والتقارير الزائفة الأقل مصداقية، وإنْ كان كلُّ ما هو ذو مصداقية باديًا أمامه للعيان ويُمثّل الحقيقة العلمية؛ كونه ميّالاً نحو تفكير رغبوي، فهو لا يقع إلا على ما يُؤيِّد فكرته، ومن ناحية أخرى يبدو عاطفيًّا وحسّاسًا ونرجسيًّا ويرفض عنصر الصُّدفة والفوضى، لذا يقول أمبرتو إيكو: «المؤامرة قصة جذّابة؛ لأنّها تُحوِّل العالم إلى رواية دراميّة، حيث الشرير واضح للعيان، والبطل أي (المؤمن بالمؤامرة) منقذ». أو كما يقول سيوران: «يُفضّل البشر الاعتقاد بوجود خطة شيطانية على أن يتقبلوا أنّ العالم بلا معنى». بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الإشاعة تترك أثرًا كبيرًا في توجيه الخطاب المؤامراتي وصنع رأي عام مضاد؛ إذ تتّسع دائرة المؤامرة بحجم الفكرة وكونيتها لتجد مستهلكين شعبويّين بطبعهم لا سيما إذا كانت متعالقة في الأذهان مع سرديتهم النمطية. ويجنح صاحب هذا النمط من التفكير بطبعه إلى الأُحادية وغلبة القلق وعدم الاطمئنان والخوف والارتياب والهوس باليقينيّة واللا تناهي إزاء التكذيب، والعجز عن تقبّل الفوضى، والشعور بالانهزامية؛ حيث يطغى الانهزام عليه كونه لا طائل من شيء ما دامت هذه اليد الخفيّة متربصةً بالعالم. ولذا يظلّ أمر التصدّي لمثل هذه التصوّرات الساذجة مرهونًا بمدى الوعي العلمي والمنهجي وبالمسؤولية الشخصية إزاء الذات والمجتمع. وأظنّ أنّ الحلّ يكمن دائما في طمأنة مؤسسية للمجتمع بتكثيف القيمة المنهجية العلمية في شكلها التفصيلي أكثر من مجرّد إبدائها في صورة توعية سطحية، وذلك لإشباع نهم أمثال هذه العقول المتوهّمة بالاستقصائية. وأمَّا على مستوى الأفراد فمن المهم أن يُعمِل الإنسان مهارات تفكيره العليا لا سيما التحليل منها والنقد ليبدو أكثر اتساقًا مع ذاته وأكثر نضجا ووعيا. ومع ذلك، بقي أن نتساءل: هل العالم حقًا يخلو من المؤامرات؟ والجواب: بالطبع لا ..! ولكن ثمّة فرق بين القراءة العلمية الموضوعية للتاريخ والأحداث والظواهر وبين التسليم المطلق بها لقوّة خفيّة لا دليل عليها. يقول عرّاب الفلسفة التحليلية برتراند راسل: «العقلانيّة ليست أن تُصدق كلّ شيء، بل أن تزن الاحتمالات بناء على الأدلة». ذاك أنّ التفكير المؤامراتي يُضاهي لعبة الظل التي تُظهر إجابات سهلة لألغاز معقدة جدًا، وتُغذي احتياجنا البشري للفهم حتى لو كان على حساب الحقيقة ذاتها. فالسِّر لا يكمن في البحث عن يدٍ خفية، وإنّما يكمن في تعلّم كيف نبحث (المنهجية)؟ ومن أين نستقي المعلومة (المصدر)؟ وما الدليل عليها (الموثوقية)؟ أو كما يقول كارل ساجان: «الادعاءات غير العادية تتطلّب أدلة غير عادية». ختامًا لربّما كانت بعض المؤامرات حقيقيةً، لكنّ الأكيد أنّ الجهل هو أكبر مؤامرة على الإطلاق. وبالطبع أعني بها هنا مؤامرة الإنسان على نفسه.