ما أبهى هذه العبارة «موائد الرحمن»! تلك الصورة المختلفة البديعة التي تتجلى في كل عام في هذا الشهر الفضيل، امتدّت فيها موائد العطاء في ساحات الأحياء وشوارعها حاملة معها روح التكافل والتراحم التي وجدت في قلوب الناس مُنذ القدم، حقيقة هي ليس مجرد أطباق توضع، بل هي مشاعر دفء إنساني يجتمع فيها الفقير والغني، المقيم والعابر، في لحظة من السكينة والرحمة التي تنبض بها ليالي الشهر الكريم. انتشرت «موائد الرحمن» في العديد من الدول العربية والإسلامية في شهر الخير ويعود أصل هذه العادة بحسب التاريخ الإسلامي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيثُ كان يقوم عليه الصلاة والسلام بإرسال وجبات السحور والفطور مع الصحابي بلال بن رباح إلى الوفود. نعم، هي ليست تقليداً بل ثقافة متجذرة، وحكاية تُروى كُل عام، وهي درس في العطاء والتراحم ورسالة بأن البذل حياة، وما أجمل أن نُدرك ذلك حين نعود ونجد جذورًا وراء ما نراه اليوم! ونستمد منه نوراً ينير وعينا، فقد فعل ذلك معي كتاب «دليل الأوائل» الذي لم يكن للقراءة فقط، بل وجدته نافذة فتحت لي أُفقاً أوسع لرؤية التاريخ والحاضر، وما يتشابك بينهما من خيوط لا تنقطع، إلى أن رأيت كُل ما قرأت قد أُعيد في هذه الأُمة تعريف مفاهيم التنمية والرؤى المستقبلية، لنرى في قلب الحرمين الشريفين، أعظم صور العطاء والتكافل في موائد الإفطار التي ترعاها المملكة العربية السعودية برعاية خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، هي ليست مجرد موائد، بل مشهد يحكي حضارة تتقاطع فيها روحانية المكان ودقة التنظيم، حيثُ يُصبح العطاء فناً راقياً لا مجرد فعل عابر. «موائد الرحمن.. كرم يليق بالحرمين» نحن أبناء هذا الوطن، ولعل أجمل ما يميزنا المشهد الأكثر بهاءً هو ما نراه في المسجد الحرام والمسجد النبوي خلال شهر رمضان المبارك، حيثُ تُفرش موائد الإفطار بإتقان لا يشوبه عشوائية، تقدم فيها أجود أنواع التمور وأصفى الماء وأطهره «ماء زمزم»، في تناغم يعكس عظمة التنظيم وروح الإحسان لِنُثبت للعالم بأسره أنها ليست مجرد وجبات تُقدم، بل إرث ثقافي ممتد يعكس فلسفة المملكة في جعل الخير منهجاً، والتكافل جزاءً من استراتجية متكاملة، تتضافر فيها الجهات الحكومية الخيرية والمتطوعين ليصبح العطاء أكثر انتظاماً وأشد تأثيراً. «رؤية المملكة في هذه الموائد.. من الإحسان إلى الإستدامة» لتعيد المملكة العربية السعودية صياغة هذا المفهوم، ليُصبح أكثر استدامة وأقل هدراً، فنرى التحول نحو الابتكار في الإحسان، حيثُ تستخدم أحدثُ التقنيات في الإدارة والتنظيم لضمان وصول الطعام لمستحقيه بكفاءة مع مراعاة تقليل الفاقد الغذائي، ليُصبح العطاء مسؤلية واعية وليس مجرد فعل عاطفي لحظي. في النهاية، حين نجلس إلى موائد الرحمن سواء كنُا مُعطين أو مُتلقين، فإننا في الحقيقة نجلس إلى درسٍ عميق في الإنسانية درسٍ مفاده أن الكرم الحقيقي لا يكمُن في الوفرة، بل في القدرة على تقاسم الخير حتى يُصبح الجميع شُركاء في النعمة، لا مجرد ضيوف عليها. نجلاء الربيعان