في قلب مدينة أصيلة المغربية العتيقة التي ولد بها محمد بن عيسى 1937-2025م وعشقها وأحبها وهام بها تربى بين أزقتها وبحرها وحاراتها، حيث ووري الثرى وسط حضور رسمي وشعبي امتلأت به جنبات البلدة القديمة يوم الأحد الماضي، الراحل من رواد الفكر والثقافة ليس في المغرب بل في الوطن العربي ترك ثروة من المعرفة والتجربة لتستفيد منها الأجيال، الراحل خاض غمار السياسة والثقافة والصحافة في فترة زمنية كانت فيها الموارد المالية شحيحة وسبل التواصل محدودة، ومع ذلك استطاع أن يؤسس أعظم موسم ثقافي عربي "موسم أصيلة الثقافي" امتد قرابة نصف قرن وصنع منجزاً متراكماً في سبيل تحقيق نهضة حضارية تخدم الثقافة وأهلها، وهب نفسه للمعرفة وأجمعت مختلف ردود الفعل، من المغرب وخارجه، على الإشادة بتجربة وخصال الرجل، مشددين على أن رحيل محمد بن عيسى "محزن"، يخفف من وطأته أن الراحل "باقٍ فيما قدم من عطاء وفكر"، لا يختلف أحد على حبه وعشقه، كان الراحل ذاكرة حية وأحد المبدعين المؤثرين في العالم العربي نال العديد من الجوائز. جعل من بلدته أصيلة وموسمها الثقافي منصة حرة للرأي والرأي الآخر، ومنتدى لحوار عميق بين نساء ورجال الفكر والسياسة والإبداع، من كل الأطياف والقارات والجنسيات والثقافات والأديان. في حوارات اتسمت على الدوام بقدر عالٍ من النضج والتبصر والمسؤولية، في ملامسة القضايا الاستراتيجية وتحليل الظواهر المعَقَّدة، تلك المضامينُ غنية بكل الندوات التي نظمت في أصيلة ولم تقتصر على ذلك بل تم طباعة تلك الندوات والمداخلات القيمة وإصدارها في كتب خاصة بها، الراحل ابن عيسى أحد المؤسسين للمشهد الثقافي العربي منذ أواخر السبعينات الميلادية في القرن الماضي، جمع الجميع من عرب وأفارقة وأجانب في مواسم أصيلة الثقافية جمع التيارات المختلفة إلى المثقف الصغير، فتح حدائق أصيلة لتخليد أسماء الشعراء الذين مروا بها وأحيوا لياليها مثل الشاعر السنغالي ليبولد سيدار سنغور، والشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، والروائي السوداني الطيب صالح، والشاعر العرافي بلندا الحيدري، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعر المغربي أحمد عبد السلام البقالي، والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، لم يكتف بذلك بل جعل ساحات أصيلة وشوارعها وأزقتها تحمل أسماء مفكرين ومبدعين، من داخل المغرب ومن خارجه، من القدماء والمحدثين. وما جاء في صفحة "مؤسسة منتدى أصيلة": "بقلوب مليئة بالأسى، نودع اليوم رجلاً من رجالات الأمة، السيد محمد بن عيسى، الذي كان نبراساً للعلم والدبلوماسية. لقد كان -رحمه الله- مثالاً للعطاء والإخلاص، حمل رسالة وطنه بكل فخر، وسعى بلا كلل لتعزيز مكانة المغرب والعرب على الساحة الدولية. رحلتَ يا محمد بن عيسى، لكن ذكراك ستظل حية في قلوب من عرفوك، وفي صفحات التاريخ التي سجلت إنجازاتك. لقد كنتَ دبلوماسياً بقلب المفكر، ومثقفاً بفكر القائد. اللهم اغفر له وارحمه، وأسكنه فسيح جناتك مع النبيين والصديقين. وإنا لله وإنا إليه راجعون. "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً". رحمك الله يا محمد بن عيسى، وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان".