حكايا نسجت من خيوط الشمس على سفوح الأزمنة العابرة في دوامة الزمن المجهول، وصوت معتق بألحان عازف وأغاني شاعر. تأملات فلسفية شاردة ولوحة فنية تفيض بالتفاصيل المشفرة التي لا يفك لغتها سوى متذوق. حذق مفتون بنص ما. ذاك المرتحل في محطات الفكر عابر الأكوان ومتأمل للبعيد القريب، كائن لا يطيق العيش دون معنى في حياته، والمعنى حاضر بين طيات الكتب مسطر ومرسوم بين حدود الأشياء واكتشاف جغرافية المفاهيم. كأن العالم والمحتوى يحترقان داخل كتاب ويشعان بجذوة التاريخ لقراء المستقبل. فما فعل القراءة؟ وما العلاقة القائمة بين الكتاب والقارئ، والقارئ والكتاب؟ كم هي مختلفة رحلات الحياة وأعظمها مجازفة وعذوبة هي رحلات القراء عشاق الكتب. إنها رحلة الامتلاء بالضوء النابع مما هو قابع في ذواتنا والعالم من حولنا، وولادة الانبثاقات المتنوعة والكامنة في دواخلنا. (القراءة تعني الاقتراب من شيء، هو قيد الصيرورة). إنه فعل القراءة وتاريخها الذي يقفز إلى الأمام إلى وقتنا الحاضر ثم إلى قرن بعيد مندثر في دوامته الزمنية فيرفض الانصياع للنظام المتعارف إنما يستنطق مجريات الحياة ويعود من جديد إلى البداية لفهم الحياة. كما نفعل عندما ننتهي من كتاب ونعود لقراءته من جديد. وهذا ما يحدث معنا عندما نرى الآثار التاريخية التي تعود إلى آلاف السنوات قبل الميلاد فهي تبعث الحياة في الذاكرة المتعلقة ببدايات أزمنتنا، وتجعلنا جزءاً من فعل خلق سيبقى قائماً مادامت هذه الصور مرئية ومقروءة. إن السياحة في عالم الكتب تتطلب قارئاً نبيهاً فطناً يعمد على انتقاء الكتاب الذي هو أساسي في بناء وعيه وتوسيع آفاق ثقافته. فالكاتب يسأل نفسه لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ والقارئ يطرح ذات السؤال ماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ إذاً العهدة على المضمون وما حوى والفكر وما وعى. فذاك ينصت لصوت الكتب المنبعث من لغتها ومضمونها وأفكارها، ينتقل بين صنوف الأدب والفن والعلوم الأخرى فكل له مشاربه فيما يقرأ؛ فهناك قُرّاء اختزلوا في حياتهم تجارب كتابهم واعتنقوا في سبيل ذلك أفكارهم ومعتقداتهم على يقين منهم إنها حكمة الحياة، وحقيقة الوجود. ومنذ ذاك الحين لايزال الكتاب والقراء يتجادلون حول مضمون الحياة وصولاً إلى الحكمة عبر ذاكرة من المعرفة عمرها قرون، فذاكرة الحياة هي الأدب الذي يصون شيئاً ما ينمو في يقين الشك. والقراءة مطالبة باسترداد هذا الحق في الخلود الإنساني. إن كتبنا سجلات تواريخنا، وشواهد حياتنا، وإشراقاتنا وانكساراتنا، ومخيلة القراء بريد النجاة للواقع وأحلام المستقبل في نسيج الحياة اليومية قد يقولون (لم يكن إلا حلماً)تورية الاطمئنان لواقع فج ومرور لسرديات الأحلام في سياق منطقي. فيمتلك القارئ الفريد القدرة على طرح الأسئلة، وصدوح أي صوت مألوف في قراءاته، فيفتح النوافذ على عمق النص وبنية التفكير ورسوخ الهوية. يقال إن القراءة فعل من أفعال الحياة الخاصة ومن هنا تبدأ رحلتي صفوف لانهائية من الكتب تتجاذبني بين أروقتها، أصوات مكتومة لحروف معتقة برائحة الزمن، وسنا الوهج الخافت في دهاليز المكتبات وعلى طاولات القراءة تترجم حالة سحرية ليس لها معنى سوى الدهشة. أشعر أن ذاتي تتحول مع كل صفحة من كتاب على مر السنين، وأن وجودي يترجم إلى حالة محض لفظية تحوي قصتي الحقيقية القابعة على أحد رفوف الكتب، فقط أحتاج للوقت ورهان الحظ أين هما؟ أحتاج إلى الوجود المادي للكتب من حولي، أسكن إليها وأجدد لغتي من خلالها وأتدفق في عوالمها. علمتني القراءة العقلانية والشجاعة والتفاعل الصادق معها خوفاً من ضياع العمر بين أكوام مكدسة من الكتب البائسة التي تأكل عمر القارئ دون فائدة، بل هي عبء ثقيل على أكتاف العشوائيين الذين يتخبطون بين التيه وتشوه الوعي. وأعطتني عذراً مقبولاً لعزلتي أو ربما أعطت لعزلتي معنى آخر ينبض بالحياة. وكما قال العقاد: إن حبه للقراءة يمنحه أكثر من حياة واحدة. وأن يعيش الإنسان الواقع بكل تناقضاته. إن القراءة تختلف باختلاف الناس وشخصياتهم واحتياجاتهم المتنوعة، بل كل جيل يختلف عن الآخر، وقد تتلاشى دهشة القراءة الأولى حيث الوعي يتطور والعالم يتغير، وهذا يجعلني على يقين أن تذوق النص (حالة للذات لا ينوب عنها أي ذات أخرى) وهي عملية خلق القارئ الأول.