ثلاث ملاحظات تتعلق بالكتب: 1- الكتب كثيرة. 2 - الكتب الجيدة قليلة. 3 - الكتب غير موجودة إذا لم نقرأها. الملاحظة الأولى برهانها في متناول اليد. بينما تقرأ هذه الكلمات حاول أن تتذكر الكتب التي قرأتها في حياتك. هل تستطيع أن تحصيها؟ توقف عن القراءة لحظة واغمض عينيك. أين أنت؟ في البيت؟ في المكتب؟ في السيارة؟ إذا كنت في السيارة لا تقرأ. هذا غير آمن. إذا كنت في المكتب ضع يديك على أذنيك كي لا تسمع الأصوات حولك. اذا كنت في البيت تمدد على جنبك. والآن حاول أن تحصي الكتب التي قرأتها في حياتك؟ ما زال الأمر صعباً. ليس سهلاً أبداً أن تعدّ كل تلك الكتب. أمامك إذاً جوابان فقط على السؤال: هل تستطيع أن تحصي الكتب التي قرأت؟ جوابان فقط. لا أو نعم. إذا أجبت بلا فهذا يعني أن الكتب كثيرة. وإذا أجبت بنعم فهذا يعني أمرين. الامر الأول: انك لم تقرأ كثيراً، وهذه ليست نقطة لصالحك. الأمر الثاني: انك قرأت عدداً معيناً من الكتب، وبالتالي فأنت لم تقرأ عدداً آخر من الكتب. هذا "العدد الآخر" الذي لم تقرأه كبير. ولا أحد يدرك هذا أكثر مما تدركه أنت. الكتب كثيرة في العالم. لا أحد يستطيع أن يقرأ كل الكتب. يمكن أن نمضي خطوة اضافية فنقول: لا يملك أحد أن يقرأ كل ما كُتبَ في لغته الأم. كان الجاحظ قارئاً نهماً. لكن هل قرأ الجاحظ كل ما كُتب في اللغة العربية في زمنه؟ يجوز الاجابة بنعم. والسبب بسيط: عاش الجاحظ في زمن سابق لاختراع الطباعة. والكتب لم تكن كثيرة جداً آنذاك. لكن من الممكن أيضاً الاجابة بلا. لم يقرأ الجاحظ كل ما وجد من مخطوطات عربية في أيامه. والسبب بسيط أيضاً، لأنه السبب الأول ذاته: عاش الجاحظ في زمن سابق لاختراع الطباعة وهذا عنى عدم توافر المخطوطات بين الأيدي بسهولة. في ذلك الزمن البعيد كان الأوروبي الثري يشتري مخطوطاً بمزرعة كاملة. قراء الموسوعات التاريخية، والمعجبون بأدب ما قبل عصر النهضة، يعرفون هذا. في أيامنا هذه هل نعرف أحداً قرأ كل الكتب العربية؟ كل مجلدات المسعودي والطبري وابن الأثير و... لم نذكر إلا حفنة مؤرخين. ماذا عن الفقهاء؟ ماذا عن جامعي العجائب؟ ماذا عن الرحالة؟ ثم ان قارئ هذه الكتب القديمة يميل - في غالب الظن - عن قراءة الأدب العربي الحديث. يقرأ هذا أو ذاك. فإذا قرأ الاثنين معاً واجهه سؤال: هل قرأ كل ما يُكتب في العربية من مؤلفات سياسية ومذكرات وأبحاث و... في الغالب لا. يصعب أن يرغب انسان واحد في قراءة كل هذه الأصناف والأجناس. وإذا افترضنا مع الأقدمين ان الانسان ليس شخصاً واحداً فقط بدليل انك في هذه اللحظة لست الانسان ذاته الذي كنته بالأمس، واذا افترضنا ان ثمة رجلاً في بلادنا العربية قرأ كل ما كتب في اللغة العربية حتى هذا اليوم، بلغنا نقطة تشرف على الحكايات الخُرافية أو الخيال العلمي. لنفرض جدلاً ان هذا حقيقي: رجل قرأ كل ما كُتب في اللغة العربية. كم بلغ هذا الرجل من العمر؟ كم كتاباً يستطيع أن يقرأ بعد؟ هل يعرف هذا الرجل انه يوجد في أدراج ناشر واحد في بيروت ما يزيد عن سبعين مخطوطة يمكن ان تنشر في أي لحظة الآن؟ ثم: ماذا عن الكتب الأجنبية؟ هل يتقن الرجل لغات غير العربية؟ في الغالب الجواب نعم. لكن يصعب ان يكون قرأ الكثير في تلك اللغات. لنحسب انه قرأ كل تاريخ الطبري في ثلاثة أيام. وهذا يبدو مستحيلاً لكنه ليس بمستحيل. حتى بهذا المعدل بهذه السرعة الخارقة يصعب ان ينهي كل ما كُتب في العربية وتُرجم اليها في حياة واحدة. فماذا عن اللغات الأخرى؟ الكتب كثيرة إذاً. وغير قابلة للاحصاء. هذه ملاحظة يسهل برهانها. الملاحظة الثانية: الكتب الجيدة قليلة. لا بد من تعريف هذه العبارة: "الكتب الجيدة". للوهلة الأولى يبدو العثور على تعريف عام صعباً. لكن هنا اقتراح مقنع: الكتاب الجيد هو كتاب ترغب في ان تقرأه مرة أخرى بعد القراءة الأولى. كتاب تكرر قراءته فعلاً. ولا يغادرك. يخلف فيك بصمة لا تمحى. تكفي هذه الجملة: الكتاب الجيد هو كتاب يُقرأ أكثر من مرة واحدة. نبلغ الآن الجزء الثاني من الملاحظة: هذه الكتب قليلة. الكتب الجيدة قليلة. لاحظ دانتي ذلك في مطلع أيلول سبتمبر 1321، قبل أيام قليلة من موته مصاباً بحمى الملاريا التي التقطها بينما يقطع المستنقعات ويدخل فلورنسا. روبرت الشستري لاحظ الملاحظة ذاتها بينما يترجم القرآن الكريم الى اللاتينية، في سنة 1144 ميلادية. كان دانتي، وروبرت الشستري من قبله، يكرران ملاحظة قديمة جداً. ملاحظة تُنسب لأوفيد، تُنسب لفرجيل، تُنسب لهوميروس، وتُنسب لحكماء العهد القديم، ولصاحب المهابهاراتا السنسكريتية. الكتب الجيدة قليلة. روبرت لويس ستيفنسون أدرك هذا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بينما يقرأ كوميديا دانتي الإلهية، ويباشر كتابة "دكتور جاكل ومستر هايد". خورخيه لويس بورخيس أدرك هذا في أربعينات القرن العشرين بينما يقرأ رواية ستيفنسون القصيرة ويكتب "حياة تيديو ايزيدورو كروز". غابرييل غارسيا ماركيز أدرك هذا عام 1965 بينما يقرأ قصص بورخيس القصيرة ويكتب "مئة عام من العزلة"... الكتب الجيدة قليلة. والكارثة انها يمكن أن تضيع في ركام الكتب التي تقذفها مطابع العالم الى هذا الكون في كل يوم. يكفي ان يزور أحدنا معرض كتب كي ينتابه هذا الاحساس المفزع: هل أجد الكتاب الذي أبحث عنه في متاهة الكتب هذه؟ أمر مفزع يشبه البحث عن ورقة يابسة محددة في غابات الخريف المغطاة بالورق اليابس. ويشبه قصة ايطالية من القرون الوسطى مجهولة المؤلف. هذه القصة في زعم أحد الكتاب المعاصرين من تأليف ايتالو كالفينو. لكن الرجوع الى مؤلفات كالفينو يقطع الشك: لم يكتب كالفينو القصة التي نرويها هنا. تدور أحداث القصة في أوروبا العصور الوسطى. تقع حرب بين مملكتين. يباد جيش كامل. يصل الخبر الى قرية يعيش فيها رجل يدعى شارلمان. هذا الرجل عنده أخ واحد، والأخ المذكور قتل في المعركة. يقرر شارلمان ان يترك القرية ويقطع الجبال والسهول والأودية الى ميدان المعركة. يريد أن يرجع بجثة أخيه الى القرية، قرية الأسلاف، وأن يدفنه في ترابها، حيث يرقد الأسلاف. بعد رحلة طويلة يبلغ شارلمان جبلاً. يقول له الدليل: "وراء هذا الجبل حدثت المعركة". يتسلق شارلمان الجبل. ها هو بلغ نهاية الرحلة. وبعد قليل يهبط الى الجانب الآخر ويحمل جثة أخيه على كتفه ويرجع بها الى القرية ويدفنه في جوار أهله. يفكر شارلمان في كل هذا بينما يتسلق الجبل. الوقت قارب الظهيرة والشمس في كبد السماء. يبلغ القمة لاهثاً. يستقيم والعرق يسيل على أنفه وينظر الى السهل في الأسفل. سهل مغطى بآلاف الجثث. مغطى بعدد لا يحصى من الجثث. كيف يجد جثة أخيه؟ كيف يجد أخاه بين كل هؤلاء؟ الكتب كثيرة. والكتب الجيدة قليلة. بقيت الملاحظة الثالثة: الكتب غير موجودة إذا لم نقرأها. كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للإمام الدميري، في طبعة المطبعة الميمنية بمصر، والمنشور عام 1888 مع هامش على صفحات الكتاب هو "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للعلامة القزويني، هذا الكتاب الذي يضم كتابين، غير موجود في العالم، على رغم انه ينام على رف مكتبة جامعية في احدى العواصم العربية، منذ قرن ونيف. كتاب مغطى بالغبار، وورقه يتفتت في الرطوبة والظلام، ولم يغادر المكتبة المذكورة طوال قرن كامل إلا مرة أو مرتين. كيف يوجد الكتاب إذا لم يقرأه أحد؟ كتاب انكليزي صادر عام 1862 بقلم كاهن بروتستانتي زار صربيا عام 1860 وكتب عن زعماء دروز من جبل لبنان مسجونين آنذاك في أقبية قلعة بلغراد، هذا الكتاب كيف يوجد في عالمنا إذا بقي نائماً تحت الأرض في مكتبة تبيع كتباً قديمة في شارع متفرع عن ادجوارد رود في لندن؟ الكتاب المقفل يشبه صخرة وسط صحراء. الكتاب المقفل غير موجود. لا يصير كتاباً إلا متى وقعت عين عليه. انتهينا. 3 ملاحظات: الكتب كثيرة. الكتب الجيدة قليلة. والكتب غير موجودة إذا لم نقرأها.