لكل جبل أو تشكيل جبلي غريب في المملكة أو براكين خامدة، نسيج من أدب أو أساطير وحكايات خرافية متوارثة عبر الأجيال، ثم تتحول من خرافة إلى تراث شعبي غير مادي وأساطير شعبية، مثل الأساطير التي تروى حول جبلي أجا وسلمى، وجبلي شمال وشميّل ومقلع طمية وغيرها. وكما يقول نيكولاس فريدة: «الخرافة ميراث الفنون، وهي معين لا ينضب للأفكار المبدعة». والأساطير والخرافات الشعبية منتج أدبي شعبي طال إهماله، وأحد مداخل فهم العقلية التقليدية والمبدعة في التعامل الواقعي مع الظواهر الطبيعية. وهذه الأساطير والخرافات أصبحت تراثًا غير مادي، إذ تجسد أفلام الرعب قبل عصر التلفزيون، حيث تحتوي على جزء من واقع وحبكة درامية وقصص أبطال وصناعة الدهشة لدى المتلقي. وتعتبر الأساطير الشعبية والخرافات حول الجبال والبراكين الخامدة مهمة؛ لأن بداخلها أنسنة الجغرافيا، من خلال ربط الإنسان والذكريات والقصص والغموض بالمكان، كما تضعنا أمام موضوع «الجغرافيا المقدسة» حول مواضع النبوة التي أصبحت جزء من الثقافة الإسلامية. الضعف المعرفي عزز قوة الخيال تكشف هذه الظاهرة عن قوة الملاحظات لدى الإنسان العادي وهشاشة تفسيره لها، نظرًا للعجز المعرفي العلمي، كما تكشف عن خيال واسع حفز الذاكرة الشعبية على إضفاء تأويلات ذات حبكة قصصية قصيرة. يقول مارك شورر: «إذا أحسسنا بأننا لم نعد قادرين على التعبير عن معنى الحياة، فلا أقل من أن نخبر عن ظواهرها». كيف يسقط الإنسان مشاعره وصراعاته على الجبال؟ للجبال الفريدة بموقعها أو تشكيلها روح تلهم الأهالي وتغذي مخيلتهم وتنمي فيهم ذاكرة متخيلة تنسج حولها أساطير لكائنات خارقة، وغالبًا لا تتجاوز هذه الكائنات عالم الجن الذي يتسم بالتخفي والغموض والقوة، وهذا ما يغذي الذاكرة بابتكار أساطير تجد نفسيات مستعدة لتأييدها بأي أصوات غريبة وليلية. والجبال تمنح مناظر خلابة من بعيد، ولكنها تتحول إلى مخاوف من قريب. مصادر الإلهام الأسطوري من المؤكد أن بناء الأساطير الشعبية من التكوينات الجبلية المحيطة بالأهالي سمة «انتشارية» بمعنى أنها تنتشر بين جميع الشعوب دون ضرورة لنشأتها في مكان ثم انتشارها. واشتهر وادي عبقر بأنه مسكن شعراء الجن، وقيل عن فحول الشعراء العرب بأنهم سكنوا هذا الوادي العظيم، ويرى بعض علماء اللغة أن مصطلح «عبقري» مأخوذ من وادي عبقر. ولكن يمكن تعزيز الظاهرة بأساطير راسخة من شعوب وحضارات مجاورة، تنتقل إليها عبر طرق القوافل التجارية، والاحتكاك نتيجة الغزوات والرحلات، مثل الحضارات القديمة في العراق واليمن. وقد تكون طرق التجارة القادمة من الصين والهند والمارة بالجزيرة العربية والمحملة بالبضائع والقيم والقصص والأساطير، نقلت معها شيئًا من أساطيرها، وسوف أذكر نماذج قليلة وعشوائية من أساطير الجبال. جبل أحد والمعاني الروحية جبل مشهور شمال المدينةالمنورة، وقعت على سفحه معركة أحد (السنة 3ه)، وأصبحت «مقبرة الشهداء» على سفح الجبل مزار المسلمين، وزادت رمزيته الدينية بالحديث النبوي عنه: «جبل يحبنا ونحبه»، مما زاد من تبرك الشعوب الإسلامية به. زرت مقبرة الشهداء كثيرًا، واطلعت على مقتنيات متحف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المجاور للمقبرة، وقرأت عدد من الرسائل الموجهة لقبر حمزة من أنحاء العالم الإسلامي ومختلف اللغات، وهي إما طلبات دنيوية مثل تسديد دين وإعانة على الزواج وشفاء من أمراض، أو شفاعة دينية بطلب المغفرة. أبرز الخرافات والأساطير الشعبية حول جبل أحد: الاعتقاد الديني فيه باعتباره من جبال الجنة، استنادًا إلى حديث غير صحيح، وأن الجبل صحابي، ووجود طاقة إيجابية عند لمس صخوره لاستلهام البركة، وفي أعلاه غار صغير يسمى الشق لجأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم وسال دمه عليه عندما جرح، فما يزال ريح المسك في المكان حتى الآن. وإضفاء الطابع البشري للجبل وأنسنته يزيد من الارتباط العاطفي ويحقق رغبة الاتصال المباشر بالمقدس، به مما يعزز مكانته في الذاكرة الشعبية. جبل النور: إشراقة الوحي الأول على قمة جبل حراء يقع غار، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتردد عليه قبل البعثة للتأمل والخلوة مستعينًا بإطلالة علوية على منازل مكة، وبعد البعثة اختزل اسم الجبل في الغار، وسمي الجبل بالنور تيمنًا. وهي تسمية إسلامية، وقد ذكر ياقوت في «معجم البلدان» أن غار حراء الذي يأوي إليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، يقع في جبل حراء، وأن الغار الذي اختفى فيه مع أبي بكر وهو في هجرته إلى المدينة يقع في جبل ثور. وأشار إلى أن حجارة الكعبة أخذت من عدة جبال، أما قواعدها فأخذت من جبل حراء. ونزل الوحي لأول مرة مصحوبًا بسورة «اقرأ» في غار حراء، وتحول الغار والجبل إلى مزار للمسلمين. وتنتشر الكتابات عند مدخل الغار، وخاصة من القادمين من شبه القارة الهندية، إما تخليدًا لذكرى وصولهم للمكان، أو تعويذة روحية. ويلحظ ارتباط ظهور الديانات الثلاث بالجبال؛ حيث تلقى موسى عليه السلام الوصايا العشر على جبل سيناء، وتجلى المسيح عيسى عليه السلام على جبل التجلي وأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على جبل حراء المعروف بجبل النور. ويلحظ أن ثقافة كتابة الاسم الشخصي في أماكن التفاؤل الشهيرة تعتبر تعويذة في شبه القارة الهندية، ورأيت كثير منها متشابهة في غار حراء بمكة وفي غار بجبل التوباد في الأفلاج، المشهور بأنه ملتقى قيس بن الملوح وليلى العامرية. يجد زوار غار حراء في جبل النور وسيلة لتعزيز هويتهم الدينية وحاجة للربط بين الجغرافيا والروحانية والاتصال بين الماضي والحاضر. جبل اللوز: لغز الأديان ومتعة الأبصار يقع في تبوك واشتهر بتحوله إلى جبل أبيض في مواسم الثلوج، وله أبعاد دينية تروى عنه. وقد برزت مناقشات جديدة - قديمة حول إمكانية أن يكون جبل سيناء، ويسمى طور سيناء وطور سينين، الذي ورد في التوراة وكلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وأوحى إليه بالوصايا العشر، بأنه جبل اللوز. ويبدو أن سبب قدسية بعض الجبال التي لم تتحقق لجبل اللوز، أن العقلية الشعبية تميل إلى ما يعرف في الأنثروبولوجيا بالتقليص المكان حيث تختزل القدسية في موضع واحد، كما هو الحال في تحديد نقاط واضحة في الجبال المرتبطة بقدسية في الأديان وتحويلها إلى مركز روحي يسهل التفاعل معها، بينما بقي جبل اللوز فضاء واسعًا بلا نقطة مركزية. مقلع طمية هذه الأسطورة قديمة في التراث العربي، وجرى عليها التعديل مع مرور الزمن، وتروي الأسطورة الشعبية أن مقلع طمية، وهو حفرة عظيمة شرق الطائف، أحبت جبل قطن بين المدينةالمنورة والقصيم بجوار عقلة الصقور، وهو جبل ضخم وفي قمته فوهة عجيبة، بعدما شاهدته لاح لها على ضوء برق، فانتزعت ذاتها من مكانها ورحلت إلى قطن، وبقي مكانها حفرة ضخمة تسمى «مقلع طمية». وأثناء سير طمية رماها جبل عُكّاش برمح فأصابها ووقعت بجوار قطن، ولم تصل إليه. والأسطورة قديمة، فقد أشار إليها ياقوت الحموي في «معجم البلدان» وذكر أن عكاش زوج طمية، وقيل فيهما: تزوج عكّاش طميّة بعدما تأيّم عكاش وكاد يشيب وقد تكون علاقتها بقطن ألحقت بها مع مرور الزمن؛ لملاءمة قمة قطن مع مقلع طمية. جبلا شمالات والدم الحجري جبلا شمالات ويسميان شمال وشميّل، ويعرفان قديمًا ابني شمام، وهما من أضخم جبال القويعية وأطولها، وقد صعدتها عام 1998، واستغرقت رحلة الصعود والنزول خمس ساعات، وكنت أرى الجبال المحيطة بها بحجم الفناجيل، وقد ذكرهما امرؤ القيس: كأني إذ نزلت على المعلّا نزلت على البواذخ من شمام وهما من الجبال البركانية الخاملة، والتي نشطت في زمن جيولوجي قديم؛ ولذلك تتناثر من أعلاه الحجارة الحديدية، وصعدته عام 1998 مع العم سليمان المسهر (أبو رشيد) واستغرقت الرحلة خمس ساعات، وإذا ضربنا الحجر ببعضه يصدر صوت ضرب الحديد ببعضه. ولغرابة شكلها، أصبح منظر الحجارة المتناثرة من قمة الجبل كأنها دم سال من رأسه، ولتميز صوت الحديد الذي له صدى عند دحرجة حجارتها، قالت العامة: إن جبل شمال ضرب جبل شميل في رأسه، بسبب نزاع نشب بينهما، فسال منه الدم على شكل حجارة، وبقيت شاهد عيان على الجرح. جبلا أجا وسلمى: رمزية الحب والفراق تحكي الأسطورة، كما وردت في «معجم البلدان» لياقوت قصة رجل من زمن العماليق، وهم من القبائل البائدة، اسمه أجا بن عبدالحي، عشق فتاة من قومه اسمها سلمى، وكانت لها حاضنة اسمها العوجاء، فكانا يلتقيان في منزلها، حتى اكتشف أمرهما، فخافا من القتل وقررا الهرب، ولكن لحق بهما زوج سلمى وإخوتها، وقتلوا سلمى عند جبل سلمى، وقتلوا أجأ عند جبل أجا، فسمي الجبلان باسميهما تخليدًا لقصة الحب والفراق، وقتلوا العوجاء على هضبة بين الجبلين، فسميت باسمها. وبعد انتهاء المهمة أنف إخوة سلمى وزوجها العودة إلى قومهم، وهم: الغميم والمضلّ وفدك وفائد والحدثان، فسار كل واحد منهم إلى مكان وأقام به، فسميت الجبال بأسماء من أقام بها. جبل عكران: أسطورة الحماية من الأرواح الشريرة من سلسلة جبال منعاء في تنومة، وشكلت عوامل التعرية بعض قممه، فحيكت حولها أساطير مثل وجود ثعبان يحميه. وخاصة البروز الجبلي الذي جاء على شكل رأسي ثعبان وسمي الحنش والحية، وعلى وجه إنسان وسمي عبدالله. وكثير من التشكيلات الصخرية للجبال ذات المناظر الخلابة بدأت تستلهم حكايا الجن في السنوات الأخيرة، ولم أجد تأكيدات على وجود أساطير شعبية أو قديمة يمكن أن يتسلى بها الأهالي قبل عصر الإعلام، مثل جبال أثرب وشدا الأعلى في الباحة. جبل حرفة: قصص الجن والرعب جبل منفرد يمنح مناظر خلابة، ويقع في مركز بني عمرو في النماص، بدأت تظهر حوله قصص استيطان الجن فيه منذ سنوات قليلة، ومن أبرزها أن من يصعد إليه يصبح إما شاعرًا بمساعدة الجن، أو مجنونًا. وإذا نشأت الأسطورة حول الجن بهدف التسلية في الأجيال السابقة، فإن ذهن الإنسان البسيط سوف يكون مستعدًا لسماع أصوات الجن ونسبة كل صوت إليها حتى ولو كان صوت خطواته أو صوت الرياح الخفيفة. جبل ثلاثان بالطائف يقع جنوبالطائف وهو على شكل ثلاثة أسنمة وقمم، وبه نقوش صخرية، وتحكي الأسطورة الشعبية عن وجود كنوز يحرسها الجن. جبال الدقم: بوابة العوالم الغامضة في محافظة العارضة بمنطقة جازان، اشتهر بأنه مملكة للجن، وتروي الأسطورة الشعبية أن له بوابتين، الأولى كبيرة وفيها مملكة الجن، والثانية صغيرة وفيها ممتلكاتهم. جبل القارة: المضياف جبل سياحي مشهور في الأحساء، سمي القارة نسبة لقرية القارة والشبعان لإحاطة النخيل به من جميع الجهات، واشتهر بمرور تيار من الهواء البارد في شدة الصيف بسبب الفجوات التي تميز تشكيله وبكهوفه التي وسعت خيال العامة لإنشاء الأساطير، وقد حيكت حوله أساطير منسوبة إلى الجن. ختام تؤكد الأساطير أن لكل منطقة قدرة شعبية على الخيال الذي يشكل هويتها الخاصة وفق ثقافتها الفرعية، وهي تراث غير مادي مهم. ورمزية الجبال في السعودية التي عكستها الأساطير الشعبية تكمن في عالم الجن المفعم بالغموض والتخفي والقوة، وقصص الحب والفراق والتضحية، والروحانية الدينية، مما يعني أن الإنسان العادي لديه وعي كبير ببيئته، ويقول على لسان الجبال أساطيره التي تعبر عن ذاته. أبرز ما تؤكده نتائج الدراسة أن الفكر الشعبي متجانس بين مناطق المملكة، ورؤية الإنسان العادي للحياة وملاحظاته للتغيرات الجبلية وأساليب تفسيره لها متقاربة. من المتوقع أن تكون لجميع الأساطير والخرافات جذر واحد، فهي إما متسربة من معابد حضارات العراق، أو عابرة للمنطقة من الأساطير الهندية. يلحظ ضعف الخيال الشعبي في بعض حالات تداول القصص والأساطير وتحويرها وتكييفها بما يلائم البيئة المحلية، وهذا ناتج من انشغال الأهالي بالمعيشة اليومية، وذلك لأن مصدر دخلهم يومي، ولا يوجد دخل موسمي إلا للنخب كالتجار والعلماء، مما ضيق فرص اللقاءات الطويلة بين أبناء الطبقة الوسطى، فهي الأكثر حظوظًا في نقل التراث وتغذيته وتوريثه. جبل قارة عشق المصورين د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير