بعد أن قدّم غرايس في نظريته للاستدلال التداولي ما يُبرر الخروقات التي تطرأ على المنطق في اللغة وما تناوله في مبدأ التعاون وقواعده الأربع من تفسيراتٍ تُفضي إلى الاستلزام الحواري، قدّم كلٌ من سباربر وويلسون في الثمانينات من القرن الماضي نظريتهما للمناسبة (Relevance) في إسهام منهما بإعادة تنظيم معاني المعلومات المعمّمة والمتخفِّية خلف الملفوظات بتقليل الاحتمالات التأويلية بأقلّ جهد ممكن عبر تقييدها في السياق أثناء عملية الاستدلال. فكلّما زادت التأثيرات الإدراكية الإيجابية المتحقّقة من خلال معالجة المدخلات زادت مناسبة ذلك الإدخال. وكلّما زاد الجهد المطلوب في معالجة المدخلات قلّت مناسبة هذا الإدخال. وتُعد نظرية المناسبة نظرية معرفية نابعة في الأصل من التداولية، فهي بذلك تعمل في البيئة الضمنية بشكل واسع. حيث تُقدّم مقاربة لدراسة التواصل البشري الذي يرتكز على أرضية عامّة للتصميم المعرفي البشري. ويفترض مُنظّرو المناسبة أنَّ التواصل البشري يستند إلى قصد محدد، ولا يتمتّع بنفس الوضعية التي يتمتّع بها مبدأ غرايس التعاوني وقوانينه الحوارية؛ لأنّه ببساطة يُمثّل تعميماً للتواصل دون استثناء. فهو ليس أمرًا يُمكن اتّباعه أو تلافيه كما هو الحال في مبدأ التعاون. ويري سباربر وولسن أنَّ مبدأً واحدًا من الأهمية المثلى يُمكنه أن يُفسّر انسجام الخطاب، ووفقًا لهذا فإنَّ نظرية المناسبة تضع عقولنا المتطوّرة تحت ضغط الاختيار والمواجهة لتحقيق الحدّ الأقصى من المناسبة. فعند تأويل الملفوظات يُقلِّل المتلقي الذي يُعوّل على افتراض وجود مناسبة مُثلى من التأويلات المحتملة لإيجاد تطابق مع توقعه المناسب؛ إذ تستند الفرضية القائلة إنَّ الملفوظ منسجم مع مبدأ المناسبة إلى اعتراف المتلقي بأنّه يُجري اتصالاً مقصودًا وعلنيًّا -أي فعل اتصال- فلا يقصد المتكلم نقل رسالة معينة إليه فحسب، بل إنّه يُساعد المتلقي على الاعتراف بهذا النشاط. ويتطلّب كشف المتلقي عن المعاني في المناسبة معرفة بالجوانب الأيديولوجية التي ينطلق منها المتكلّم والتي تُمثّل خلفية مشتركة بينهما، وبما أنّ الانسجام يتطلّب افتراض المعرفة والاعتقاد، فإنَّ وضوح الملفوظ وفهمه قد يعتمد على إيديولوجية المتكلّم. وعادة ما تظلّ هذه المعارف والاعتقادات ضمنيّة؛ لأنها من المفترض أن تُمثّل مُشترَكًا اجتماعيًا. ومن ثَمّ فإنَّ فحص علاقات الانسجام المحلّية تسمح لنا بتوضيح الافتراضات والمعتقدات الضمنيّة للمتكلِّم؛ حيث من شأنه توفير أداة خفيّة للتحليل. فمن يستمع إلى أحدٍ ما يستطيع أن يستشفّ منطلقاته وتوجّهاته حتى لو لم يعرف عنها سلفاً. بالإضافة إلى أنّ وظائف الاتصال الرئيسة هي ما يُحدّد هيكلة المناسبة على جميع المستويات. وإذا كان المبدأ العام هو أنَّ المعلومات المهمّة يجب أن تأتي أولاً. فلا يُؤثر هذا على التنظيم الموضوعي فحسب، بل أيضًا على ترتيب الجُمل التي تصف سلسلة ما وترتيبها. وبالمثل، فإنَّ الإجابة غير المباشرة على سؤال ما تتطلّب مجهودًا أكثر من المعالجة إذا ما كانت مباشرةً. أضف إلى ذلك أنّ الإدخال إذا كان لا يحظى بقدر كافٍ من حضور المؤثرات الحسية فإنّه يصعب تأويله أو افتراضه ويقلّل من تحقق المناسبة. ويقترح افتراض المناسبة المُثلى قيام المتلقي بفهم عامٍّ يتمثل في التحقّق من الفرضيات التأويلية (Interpretive Hypotheses)، أي اتباع المتلقي مسارًا بأقل جهد ممكن من أجل تأويل يُلبي توقعات المناسبة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ جهد المعالجة يكمن في كونه جهد الإدراك والذاكرة والاستدلال الذي يجب استهلاكه في حوسبة التأثيرات المعرفية. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الملفوظات الطويلة والجُمل النحوية المعقّدة تتطلّب مزيدًا من الجهد في المعالجة أكثر من الملفوظات القصيرة والجُمل النحوية البسيطة. وترفض نظرية المناسبة الفرضيّة التقليدية التي ترى أن ضمنية كل جانب محدّدة تداولياً بتأويل التلفظ بصرف النظر عن توضيح المرجعية وتحديدها. وتكمن مركزية هذا الإطار في الادعاء بأنّ الجانب الصريح من الاتصال يجب أن يقع أيضًا ضمن نطاق المقاربة التداولية. ويقترح سباربر وولسن أنّ الصريح هو تطوّر استدلالي للقالب الاقتضائي أو النموذج المنطقي المشفّر بواسطة الملفوظ. وبعبارة أخرى، فإنّ المعنى الصريح يتضمّن تجميعًا للمادة المُفكك تشفيرها لغوياً والمُثراةِ تداولياً. وعلى النقيض من ذلك، فإن الاستلزامات الحوارية هي افتراضات ناتجة عن الاستدلال التداولي وحده. وبقي أن أشير إلى أنّ هذه النظرية قد اعتمدت على الإجراءات السهلة الممتنعة، ومن ثَمّ بالغت في تبسيط عملية الاستدلال، وركّزت بشكل مفرط على العقلانية بإقصاء التحيّزات والعواطف، واعتمدت على ثبات السياق، بالإضافة إلى إشكالية الاستدلال الدائري الذي يَحُوْل دون الاعتماد على أنموذج تجريبي قائم على التنبؤ عوضًا عن الوصف.