يُعرّف تحليل الخطاب غالبًا على أنّه تحليل اللغة خارج نطاق الجملة. وهذا تعريف مفرطٌ في البساطة، غير أنَّ له ميزة في توضيح اختلافه عن اللسانيات التقليدية التي تدور حول البنية؛ حيث يُبدي هذا التعريف الجملة على أنّها النطاق الأقصى الذي تعمل به البنى النحوية، وثمة فرق حاسم آخر، وهو أنَّه إذا كانت اللسانيات النظرية منذ فرديناند دي سوسير قد أصرَّت على استقلالية اللسانيات في محاولة لعزلها عن العوالق الأخرى من خلال تحديد مجالها الدقيق، فإنَّ تحليل الخطاب على سبيل المثال يعمد بقوة إلى تعدد التخصصات (Interdisciplinarity). فهو يخلق الاتصال والتداخل الجزئي مع سلسلة واسعة من العلوم الإنسانية الأخرى، بالإضافة إلى أنَّ إحدى السمات الأساسية لتحليل الخطاب هي أنّ اللغة نفسها تظل المحور الرئيس. غير أنَّ هذا الانفتاح على مختلف المشاريع المعرفية أدى إلى صعوبة في تتبع حدوده أحيانًا، ناهيك عمَّا لا يمكن أن يشمله. فالنحوي على سبيل المثال ترتكز بياناته حتمًا على الجملة وحدها، أو مجموعة من الجمل التي توضّح سمة معينة للغة المدروسة مع رصد الجمل المعيارية الصحيحة والخاطئة تركيبيًّا، لكنّه لن يسعى إلى رصد العمليات الاجتماعية والنفسية والتاريخية والثقافية التي تنطوي على إنتاج مستعمل الجمل، ولن يصف السياقات المادية أو المحيط الذي حدثت فيه هذه الجمل، وهو بالطبع ما سيأخذه محلل الخطاب في الحسبان. فإذا كانت الجملة تمثّل متوالية اعتباطية من الكلمات، فإنّ الخطاب يمثّل متوالية غير اعتباطية من الملفوظات؛ ذاك أنّ الفعل الكلامي (التداولي) لا يقتصر على المحتوى القضوي، بل يتجاوزه إلى فعل القصد التواصلي والإنجازي الذي يرتبط بطريقة حاسمة مع قدرة المتلقي على فك رموزه وتأوّلها. لقد برزت في ما بعد الجملةِ مصطلحاتٌ من قبيل: النص والملفوظ والخطاب في تحولٍ دراماتيكي نحو أبعاد تشي بتجاوز حدود التركيب والدلالة؛ حيث لكلٍّ منها خريطته المفاهيمية التي تتجاوز الشكل والمنطق، فأصبحت اللغة بعدها تحظى بتعالق كبير مع الفكر والفلسفة والثقافة. لكنّ إحدى أهم بدايات دراسة اللغة خارج نطاق الجملة منهجيًّا تمثّلت في نشر كتاب مايكل هاليداي ورقية حسن عام 1976م الاتساق (Cohesion). حيث تناولا فيه الدور المركزي للروابط غير الشكلية في جمل النص مع بعضها، بالإضافة إلى تناولهما لمصطلحي الإحالة والتكرار. وأنّ النص يمثّل تسلسلاً من الجمل المرتبطة التي لا تقف عند حدود الشكل بل تمضي قدمًا إلى وظائفها الترابطية التي تصنع محتوىً كلّيًّا، بالإضافة إلى أنّ الروابط (Connections) لم تعد مجرد أدوات ربطٍ نحوي شكلي، ولم تعد لها مجرد دلالات على مستوى الجملة، بل تجاوزتها إلى مستوى النص كلِّه. لقد كان تعريف هاليداي وحسن للنص بمثابة خروج واعٍ من مخاوف اللسانيات البنيوية، وذلك باعتبار النص وحدةً دلالية ليس من حيث البنية، بل من حيث المعنى. وإذا كان الخطاب يُوصف بأنّه زخارف اللغة فيما وراء الجُمل، فإنَّ بعض وسائل تحليل الخطاب تطرح طرقًا تحليلية إضافية لوصف المستويات الأخرى للتنظيم اللغوي وتمتد صعودًا إلى مجال الزخرفة التواصلية. وبشكل أعم، فإنَّ الفرضية الأساسية لتحليل ما بعد الجملة تكمن في أنَّ مبادئ التنظيم اللغوي لا تتوقف عند الجملة، بل تشق طريقها لضم الملفوظات معاً. ومع ذلك، فلا يزال هنالك جدل حول الطبيعة الدقيقة لمبادئ التنظيم اللغوي التي تحكم تشكيل الملفوظات في ما بعد الجملة على اعتبار ما يحمله من إشارة إلى عينات موسّعة من اللغة المنطوقة أو المكتوبة؛ حيث يهتم الخطاب بالعملية التبادلية بين المتكلم والمتلقي أو الشركاء، ومن ثم فهو يهتم بعمليات إنتاج الكلام والكتابة وتأويلهما، ويُعدُّ النص أحد أبعاد الخطاب المتمثلة في المنتج المكتوب أو المنطوق. وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إنَّ الخطاب بمفهومه الأوسع يمثل وحدة معقدة من البنية اللغوية والمعنى والممارسة التي يمكن تصورها في ظل مفهوم كلِّ ما ينتمي إلى الحدث التواصلي، إذ يُفضي تصور هذا الأخير إلى تعالق بين ثنائية الإنتاج والفهم. في حين بدا تجاوز الجملة لدى برون ويول يتخذ بُعدًا تداوليًا مع إرباكٍ في جانبه الوظيفي، فهو بالضرورة تحليل للغة المستعملة. وعلى هذا النحو لا يمكن قصره على وصف الأشكال اللغوية المستقلة عن الوظائف التي صُمّمت لخدمة العلاقات الإنسانية، غير أنّ المنهج الوظيفي لم يكن موثوقًا به بشكل جيد، ما أدّى غالبًا إلى مصطلحات غامضة ومربكة أثناء المحاولات لبناء مجموعة عامة من الوظائف الرئيسة للغة؛ حيث ستأتي بعد ذلك عدّة مقاربات لردم تلك الفجوات وسدّها.