دنا ثم تجلى؛ حتى لا يواري هذا الليلُ جفونه الناعسة، حتى لا يوشك أن يكون تحت مقصلة العتبات الزاهية، وإن هي إلا تذكرةٌ لمن يجد في قلبهِ شذراتٌ من الحياة الفانية، وإن عاتبوكَ على شيءٍ فلا تكف عن يمينك وعن شمائلك الراجحة؛ إن هي إلا نقطة عبورٍ نحو المسالك الفاضلة. قليلٌ منا يجنح للسلم، وإن جنح لها لا يصدنه إلا قليل البأس وضعيف الحيلة، وقد يكون الشوق لمن جد واجتهد، وما الحياة إلا مثابرة لمن يجد في عيشهِ لذة التواضع في قناعةٍ لا تفنى مع قوة الصمود في مكافحة الأهوال والانتصار للإنسان، من أجل مجد الإنسان، والمجد هذا لا يرسخ دعائمه إلا شديد العزم والإصرار؛ حتى لو كان هذا العزم على أسنة الرماح أو تحت ظلال السيوف، يكون الطريق سالكًا مسلكه نحو الخلاص لتحرير الخير من شر النفوس. الخير لا ينجزه إلا أهله، وإن اشتبه عليه أو جاوره مسخٌ لا يستقيم الخير كله؛ وإنما يستمر الصراع على من يسعى الوصول إلى الحقيقة، ولن يصل إليها طالما يمشي موكبًا على نفسه لا يعرف معنى الحق من الحقيقة؛ فرمزية الوجود أن أدرك نفسي وأعرفها جيدًا قبل الشروع في معرفة أغوار النفوس، وما الحياة الدنيا إلا تذكرة عبور نحو اليقين المطلق. قد يجادلك من به زيغ من الجهل فدعه يمرح في بستانه الآثم لعله يُصاب بوخزِ ما حصده من الضلالِ والظلام، فالجهل عدو العلم، والأولى ألا يجتمعا، فالجاهل سيمته التكبر والغرور، وهو دومًا في ظنه أعلم الناس وأشطرهم في المعرفة، وأما العالم سيمته التواضع والخشوع، وهو دومًا في اعتقاده أجهل الناس وأقلهم معرفة. لأن الجاهل اكتفى بشيءٍ محدد ولا يطمح في الارتقاء والتطور، بعكس العالم الذي كلما اكتشف معلومة جديدة أخذ يقطف على ما فاته من أيام كان جاهلًا فيها ويتحسر على ساعاتٍ مضت دون البحث عما هو جديد في هذا الملكوت المليء بالأسرار والمفاجآت. نقطة أخرى، دائماً يردد الجاهل (لماذا ادوّش نفسي أو أوجع رأسي بتعلم تفاصيل الحياة ومفردات العلوم). فهذه الأقوال يبكي إذا سمعها ذلك العالم، لأنه يدرك متعة المعرفة واكتشاف المزيد من بحور العلم التي لا تنتهي، وهو في قرارة نفسه يعيش أسعد الناس بل يعيش أكثر من حياة، حين سئل عباس محمود العقاد ذات يوم لماذا تقرأ؟! كان جوابه المستنير.. «حياة واحدة لا تكفيني..»، بلى هي القراءة سلاح المعرفة في معرفة الوجود، فمن دونها لا نرتقي ولا نعلو نحو القمم. وأعلم أن التباهي بالرسائل العلمية هي نقطة توقف، أو قل دفن العلم بوهم حرف الدال، فكثير من يحمل هذه الصفات في عالمنا العربي لم نجنِ من ورائهم شيئًا سوى الكبر على الآخرين وهي صفة الجاهل بحق، لكن من استحقها بجدارة نجده دومًا يتجنبها ولا يريد أن يطلق عليه هذه الصفة، وهو بحق نالها عن جدارة دون تزييف أو تزوير، وهذا يحق أن نطلق عليه صفة العالم لأنه أدرك أن العلم له فضاء واسعٌ بوسع الكون؛ وأنه أدرك أن العلم لا يتوقف مع أي درجة علمية كانت، وإنما يتوقف عند الصمت عن القراءة.