احتفالية عظيمة شهدناها الأسبوع المنصرم، وحدث مبهج بليق بمكانة مملكتنا الحبيبة، بحضارتها العريقة المتجذرة في عمق التاريخ، جاء متجلّياً في أبهى صوره، وامتزج بإبداع معاصر، في الحفل الختامي للنسخة الأولى من "مختبر التاريخ الوطني"، تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز. ليلة عظيمة تستثير الفخر والاعتزاز، ونحن نقف على لقاء يجتمع فيه عبقرية الحاضر مع روح الماضي، في مركز المؤتمرات والمعارض بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن في الرياض، بحضور نخبة من الشخصيات الفكرية والأكاديمية، يتقدمهم الباحث والمحقق الكبير بشار عواد معروف، ومعالي الدكتور فهد بن عبد الله السماري، المستشار بالديوان الملكي، إلى جانب الأستاذ تركي بن محمد الشويعر، الرئيس التنفيذي لدارة الملك عبدالعزيز، وعدد من أصحاب المعالي والسعادة وممثلي الجامعات المشاركة. المشهد لم يكن مجرد احتفال بتكريم الفائزين، بل كان شهادة على تحول التاريخ الوطني إلى مشروع إبداعي متكامل، حيث استطاعت الجامعات السعودية توظيف التقنيات والفنون لإحياء الذاكرة الوطنية، وإعادة تقديم الموروث بأساليب مبتكرة تخاطب الأجيال الحديثة. فجامعة الجوف تصدرت المشهد بحصولها على المركز الأول عن "تحدي الابتكار في تقديم التاريخ"، عبر مشروعها المبتكر "في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثقيلة" الذي أعاد صياغة الحكاية التراثية بأسلوب رقمي تفاعلي. أما جامعة حفر الباطن فجاءت في المركز الثاني عن "تحدي المشاركة في التاريخ" عبر خدمتها الرقمية "ثمِّن" التي تعزز الوعي بقيمة الإرث الوطني، فيما جامعة شقراء أبدعت في استنطاق الصور التاريخية، حيث قدمت تطبيق "زمنُنَا" الذي جسّد لحظات الماضي في إطار رقمي، ليحصد المركز الثالث. وكذلك جامعة الملك فيصل قدمت مشروعًا استثنائيًا يستثمر الموروث اللفظي في نظام النقل السريع "مترو الرياض"، مؤكدًا على أن التراث ليس مجرد ذاكرة، بل رؤية تمتد للمستقبل، فيما كليات عنيزة الأهلية حوّلت التاريخ إلى تجربة تفاعلية عبر لعبتها "علومنا"، التي استلهمت الموروث الشعبي، لتحصد المركز الخامس. وتأتي جامعة الملك سعود لتربط بين التراث والطبيعة بمشروعها "من الطبيعة إلى التراث.. حماية مستدامة برؤية متجددة"، الذي يعيد إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة في سياق ثقافي متين. لم يكن "مختبر التاريخ الوطني" مجرد مسابقة، بل منصة استقطبت أكثر من أربعين جامعة وجهة وطنية، شاركت في تقديم نماذج مبتكرة لدمج التكنولوجيا بالتراث، في خطوة تعكس التحول العميق في رؤية المملكة نحو تعزيز الهوية الوطنية بوسائل حديثة. وكان لجامعة الطائف بصمتها الفريدة، حيث قدم مركز تاريخ الطائف مجسم "الجمل وسلة الورد الطائفي"، الذي يجسد دور الإبل في نقل هذا الإرث العريق عبر تضاريس الطائف، إلى جانب منصة "الورد الطائفي بالذكاء الاصطناعي"، وهي تجربة رقمية متطورة أعدّها طلبة قسم علوم الحاسب بإشراف أكاديميين متخصصين، لتوثيق الذاكرة العطرية لهذه المدينة العريقة بأسلوب تفاعلي. والمبهج في المناسبة الرائعة أننا وجدنا مؤسساتنا تمتلك وعيًا مؤسساتيًا بأهمية التاريخ كمحرك للهوية الوطنية. إن هذا التلاقي بين الجامعات والمؤسسات الوطنية يعكس تحولًا جوهريًا في الطريقة التي ننظر بها إلى التاريخ، فلم يعد مجرّد سردٍ لماضٍ مضى، بل مشروعًا مستقبليًا متجددًا، يتخذ من الإبداع لغة، ومن التكنولوجيا وسيلة، ومن الإرث الحضاري منطلقًا نحو أفق عالمي.