حينما يكون الإنسان في مستهل أفكاره العلمية أو الفلسفية تنطلق من عقله شرارة الكلمة الأولى، وهو السؤال الديناميكي لماذا أنا في هذا الملكوت؟ وكيف أصنع ذاتي من وجودي؟، ويقع سؤال محوري أيهما يسبق الآخر ويحل اللغز! أو قل الجواب الكامل ولا كمالٌ هنا في هذا النص. وهل يوجد عقل خارجي كي أدعُوَ إلى الكمال؟! كلّا. فهناك عقول متحدة تتجانس فيما بينها متوحدة من عقلٍ نوراني هي النيرفانا الصمدية التي تقرأ لنا الظلمة قبل النور، ونتحسس من خلالها العدمية قبل الوجودية. فإذا شعرت نفسكَ أنكَ لا شيء فأعلم أنك شيء، ولكن غير مطلق. فالمُطلق رسالة كونية شاملة لكل ما في الوجود. ولأن الكمال يتهافت ويتنافس عليه الجميع، وقس كذلك على المطلق، فالكل يريد لنفسه كمال الأخلاق، وآخرون يريدون علو المنزلة الاجتماعية، وإن حصل عليها يريدها مُطلقةً له إلى أن يموت. فهذا على صعيد الماديات الزائفة، ولكن ماذا عن عالمٍ آخر؛ عالم لا تسكن فيه المادة ولا الجسد هو آخر نوراني ميتافيزيقي؛ أشبه براقص ألوان الطبيعة، الذي يطير وهو يرقص في ديمومة مستمرة بين لحظةٍ وأخرى هو بين السماء والأرض؛ تارة يصعد فيكون كالملاك؛ وأخرى يهبط إنسانًا كما كان. هي دورة صفاء يعيشها الراقص الصوفي مع الوان الفصول، وهي كرمز سماوات متعددة يولج ذاته الأخرى في أسفارٍ متعددة. إذ تغيب النفس عن واقعها وتشمخر كأنها إيقاع موسيقي. رحلة زمنية عابرة كومضة طيف هي وسيلة من وسائل التقرب إلى الله. والوسائل كثيرة فيها المجهدة وفيها البسيطة، ولعل البسيطة تقربك إلى الله أكثر من المجهدة؛ كإعطاء السائل حاجته أو اعمالًا تطوعية هادفة تبدأ بإيمانٍ كامل. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وسيلة أو قل طريقة، فالطرق كثيرة أختر لنفسك ذلك الطريق؛ طريقك الخاص، فجهادك يكون عقلًا لا جسدًا، فالجسد يعيش نشوته المؤقتة كراقص الوان الطبيعة. فالحياة في العقل ليست كالحياة في الجسد، التي اشبه ما تكون غرفة عمياء موحشة مظلمة تسكن في الجدار. فأنت في معرفتك تبحر مع عقول كثيرة لا يشاركك شخصٌ آخر، ولا يرتابكَ كائن متنصل، وإنما أنت في لحظة أنطولوجية مختلفة عن تفاصيلها الزمنية السابقة، فقط حينما تعيش الانتباه والشعور بإنك أنت لا آخر، فحينما يدخل ذلك الآخر محيطك الكوني سوف يبعثر عقلك ويسلب وجودك الزمني. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. هو معنى وجودي عميق، أن تنال شيئا تريده النفس يكون أزليًا في تحقيق إرادة؛ كانت غائبة عن المخيلة العقلية، ولا يتم تذكيرها إلا في حالة الخروج أو الانعتاق عن سجن البدن. حرية وإرادة ثنائية؛ لا يمكن فصلهن، كأنهن كلمة واحدة تُشير إلى معنى واحد، هو فلاح النفس؛ حينما تجتاز الاختبار في إتمام مسؤوليتها المسبقة.