واقعنا يتطلب مواجهة التفاهة من خلال تكريس رسائل التوعية الحقيقية عبر إطار ثقافي شامل، يقوم على إحياء الثقافة المحلية وإبراز قيمها ومعانيها، وتفعيلها إجرائياً بما ينعكس على الفكر والسلوك داخل المجتمع.. تدفق هستيري، وتراكم مهووس تتراكب المشاهد والمقاطع فوق بعضها والكل يتابع تلك الحالات التي يراها في مقاطع تواصلية متتابعة أبطالها مشاهير غرباء عنا. في فترة وجيزة مشهور يعلن بلغة غريبة كلها مبالغات ومدائح وتأكيدات عشوائية عن افتتاح محل كماليات.. الناس تتزاحم بعدها على هذا المحل الكبير ويصل الحال إلى إقفاله بسبب الزحام وحدوث إصابات تتساءل وقتها كيف يفكر هؤلاء الذين يستجيبون بتلك السهولة ويتنازلون عن عقولهم، ويعطلون وعيهم؟ يأتيك الآخر بلا فهم ولا رشد لا يترك أحدًا في حاله إلا ويسأله عن أرصدته وينساق معه مشهور آخر ليبالغ في معلوماته، ويسوّق لذاته ويرمي بمبالغ وأرقام فتتم معاقبته ومحاسبته. ثم يركض ذلك المشهور الذي تجده لم يجد محتوى فصنع شيطانه خطة له ليجعل من خصوصياته مضمونًا لمتابعيه.. وتأتيك تلك المشهورة لتجعل من أمها محتوى والآخر من أبيه، وغيرهم يتجه لتفسير الأحلام الرياضية والنتائج ويتتابع أولئك كل وما يبلغه هواه من محتوى سواء كان مقبولًا أو لا مقبول. وتستمر القصص التي لن يتسع المجال لذكرها فالكل يتابع ويستمع ويشاهد ويشارك ويعرف. قد لا يمر أسبوع إلا وتسمع بخبر محاسبة، أو معاقبة مشهور تواصلي على محتواه ويتكرر المشهد مع أن الجهات الرقابية تتابع بصرامة وحزم وعدالة كل المحتويات والمشاهد.. ومع ذلك يأبى البعض إلا ويتجاوز باعتبار شهرته ومبرر غاياته الخاصة وبحثه الساخن عن صناعة محتوى يتكسب منها مزيدًا ومزيدًا. الواقع اليوم يجعل عقولنا تستلقي على عتبات التعجب والدهشة حين نجد بيننا ولدينا صُنّاعًا للتفاهة بامتياز أصبحوا في ذواتهم سلعًا رائجة الوسائل التواصلية حين تستثمرهم، أولئك نوعية من الناس كثير منهم من طراز رديء يستخفون بعقول الناس، يصنعون التفاهات ويروّجون لها، فتنطبق عليهم مقولة كراوس "هوت شمس الثقافة أرضًا حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة". الواقع اليوم أن طوفان الخفة والتفاهة وأهلها ينهشون بعقول وثقافة المجتمع، "فيقتل الفكر والإبداع وينشر الخمول والكسل، ويؤثر على العلاقات الأسرية ويفتك بها، وينشر الشائعات ويضلل الرأي العام، وينتهك الخصوصية بدافع كسب المال، من خلال الجماهيرية والشهرة، بل ويؤدي إلى بزوغ عادات سلبية دخيلة، تمس أخلاقياتنا، وزيادة الرغبة في الانعزال والإحساس بالفراغ العاطفي، وهذه تسهم في هزيمة الذات، وتفكك الأسرة وتشويه المجتمع هكذا الظن بحالة الشهرة حين تأتي مع امتيازات لا حصر لها على ما يبدو لتجعل الواقع أكثر قتامة. قد لا يدرك بعض أولئك المشاهير بسبب قلة وعيهم وعلمهم وانسياقهم مع مغانم الإبهار والأموال ومفاتن الشهرة أنها تطمس الهوية الأخلاقية التقليدية فيشعر العديد من المشاهير بأنهم محاصرون في دور يجب عليهم القيام به، مما يؤدي إلى أزمة هوية ثقافية تزعزع الكيانات، ويمكن أن يؤدي هذ الصراع من أجل البقاء إلى إيقاد صراعات داخلية ومساهمة في تحديات تقتل خطوط الاعتراف بالاستقلال الحقيقي والتحقق الخارجي فيدفع هذا المشهور، أو ذاك إلى الضغط والإرهاق والتوتر. اليوم تجاوزنا تشخيص المشكلة إلى تخبيص المنتج بلا حل، ولا تبصر.. اليوم توجد سيولة تواصلية هائلة، واحتباس عقلي كبير يعزل المنغمسين في ملذات الشهرة التواصلية عن واقعهم، وعن الواقع.. فلم يعد هناك فائدة من النقد، أو الدراسة للحالة الحاصلة. خلطة غريبة لأبطال الوسائل "التواصلية" تجعلك تفكر كيف تم تجاوز كل الخطوط المنتظمة في السلوك المفترض التي كونت الشهرة الموشومة بالعيب والقلة.. الآن الكثير يصنع شهرته بأدوات التفاهة، ويعيد إنتاج نفسه من خلال الأنا الغارقة في الضوء، ويجعلنا نفكر في حقيقة تلك الوسائل التواصلية أولاً ثم حقيقتها الإنسانية والأخلاقية. ويبقى القول: واقعنا يتطلب مواجهة التفاهة من خلال تكريس رسائل التوعية الحقيقية عبر إطار ثقافي شامل، يقوم على إحياء الثقافة المحلية وإبراز قيمها ومعانيها، وتفعيلها إجرائياً بما ينعكس على الفكر والسلوك داخل المجتمع.