توقّف الكتّابُ كثيراً في نصوصهم عند مطالع الأعوام وخواتمها، وكان أكثر تناولهم لها متنوعاً بين استقبالها، ووداعها، مع عاطفة تشي بالحزن أحياناً، واللوعة على الفراق، وانصراف الأيام، وإدبار الأعوام، وتولي العمر؛ ولذلك قال الشاعر: «إنا لنفرح بالأيام نقطعها / وكل يومٍ مضى يُدني من الأَجَل»، وقال الآخر – وأظنه الصلتان العبدي (ت80ه): «أشابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ / مرُّ النهارِ وكرُّ العَشِيّ»، وقال آخر: «ويحدو الجديدان الجديدَ إلى البِلى / وكم من جديدٍ قد أبادا وبدّدا = وكم أبليا من جدّةٍ وبشاشةٍ / وعمرٍ طويل أفنياه وأنفدا»، وهكذا كانت أكثر النصوص التي تشير إلى تصرّم الأيام، وتعاقب الأعوام إنما تنطق عاطفة متحسرة على ما مضى وفات؛ ولهذا ألّف بعض القدماء ممن عنوا بالزهد والرقائق في هذا الميدان، على نحو ما صنع عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت281ه) في مصنّفه (كلام الليالي والأيام لابن آدم)،أو (الليالي والأيام). ولم يُغفِل المعاصرون الاهتمام بمطالع الأعوام ونهاياتها، وقد رأينا ذلك التوجه عند غير واحد، على نحو ما فعل الأديب المصري عبد العزيز البشري (1943م) إذ أفرد مقالاً له في مجلة (الرسالة) في العدد (79)، في يناير 1935م، عنونه ب (مطالع الأعوام)، ويظهر لي أنه من المقالات القليلة التي تُكتب في هذا الشأن، وقد استهله قائلاً: «جرت عادة الناس من الزمان البعيد أن يفرحوا أو يتكلّفوا الفرح كلما طالَعَتْهم دورة الأيام بعام جديد»، ثم يقول: «ولو قد راجع المرء نفسه في هذا، وراح يتحسّس الأسباب والعلل في ذلك الذي يكون منه في مطالع الأعوام، فليت شعري بِمَ هو في غاية الأمر راجع؟ أتراه فَرِحاً بأنه طوى من عمره عاماً؟ أم تراه فرحاً بأنه سينشر من عمره عاماً؟ (...) إذن ففيم فرح الانسان بدورة الأيام، واغتباطه ذاك بالتخلص من عام لاستقبال عام؟ ليت شعري أتراه يضيق بالحياة ويبرم بها، ويُسرّ كلما طوى من كتابها صفحة، واقترب من غايتها خطوة». وفي ذكرياته كتب في مجلة (السياسة) الأسبوعية في 1 يناير 1927م نصًّا عنوانه (مضى عام)، قال فيه: «مضى عامٌ، وأقبل عام، وقلوب الناس شتّى بين تصفّح عامٍ مضى، والتطلّع إلى عام جديد. وإنما يَستَشرِفُ للجديد أولئك الذين ما بَرِح يترقرقُ في صدورهم بارق الأمل..». وللطنطاوي (ت1999م) في ذكرياته نصٌّ بعنوان (في وداع عام فات، واستقبال عام آتٍ) كان فيه مودّعاً ومستقبلاً في آن، وذلك في أسلوب حكائي كما لو كان يسرد قصةً، يقول: «رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء: يموت في هذه الليلة عام ويُولَد عام؛ يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويُقبِل القادم فاتحاً ذراعَيه ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءاً من حياتنا، ولا يُعطينا بدلاً منها شيئاً؟ وهل الحياة إلاّ أعوام فوق أعوام، وهل النفوس إلاّ الذكريات والآلام؟ وجلست بين المولد والمأتم، أفكّر وأتذكّر وأحلم. لقد تعوّدت أن أجلس هذه الجلسة كلّما انصرم عام، أصفّي حسابي مع الحياة؛ أنظر ماذا أخذَت وماذا أعطت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ بدأ الزمان، ولست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي إلى حيث لا يدري أحد إلاّ الله».