انتقلت المكانة المميزة للمنطق الأرسطي إلى اللغة العربية بناء على توسع دائرة الترجمة، أين عرفت البيئة الثقافية العربية نوعاً من التطعيم المنطقي للعلوم اللغوية، لقد تجلى تأثير ذلك التفاعل الكبير دخول أسلوب المنطق الأرسطي حتى في صلب علوم العرب ذاتها، فمن المعروف أن هذا التعالق بلغ لحد أن أصبح المنطق المرجع في أحكام علم النحو العربي، إذ عرفت اللغة العربية التأسيس المدرسي ممثلاً في المدرسة البصرية بالتزامها القياس المنطقي في استنباط أحكام النحو، بينما تميزت مدرسة الكوفة برجوعها إلى كلام أهل البادية آخذة منه قواعدها النحوية حفاظاً وحماية لأصالة هذه اللغة. يشهد على هذا التقابل المعرفي الذي شكل مدار الصراع بين البنية البيانية والبنية البرهانية، تلك المناظرة التاريخية المشهورة بين أبي سعيد الحسن السيرافي وأبي بشر متى بن يونس، التي تعتبر من أقدم المناظرات التي حدثت في العالم الإسلامي بين أنصار المنطق الأرسطي وخصومه، لقد سجل صورة هذه المناظرة أبو حيان التوحيدي عام 326ه في مجلس أبي الفتح فضل بن جعفر بن الفرات أحد وزراء الخلافة العباسية، لقد اعتبر الذين حضروا مجلس المناظرة متى بن يونس مهزوماً مطلقاً وأثنوا على السيرافي، في حين دافع البعض الآخر عن التداخل والعلاقة بين البحثين كأبي حيان التوحيدي وأستاذه أبي سليمان السيجستاني القائل: وبهذا تبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو والبحث عن النحو قد يرمي بك جانب المنطق، هذا التوجه دافع عنه أبو نصر الفارابي(260ه - 339ه) الذي اعتبر مشروعه المنطقي انتصاراً لأستاذه متى، حيث قام بعرض موضوع المنطق وتحديد فروعه، وحين عرّفه فإنه سبقه على سائر العلوم، لكونه يحصي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات. يتضح هدف الفيلسوف موضحاً هذا العلم من خلال وظيفته التي تسير وفقها بقية العلوم الأخرى، فيصبح المنطق هو القانون الذي يحدد قيمة هذه المعارف والمعيار الحقيقي الذي نقيس به صواب توجهاتها، إنه الوسيلة التي تعصمنا وتجنبنا الوقوع في الخطأ متى أحصينا وتمكنا من قواعده وقوانينه. أما بشأن مقاربة المنطق للغة وتحديداً النحو فليس هناك تفاضل في الأداء حسبه ولا اختزالا لعلم على حساب الآخر، فبقدر التمايز تشترك الغايات وتتضافر الأهداف كل في سياقه ومجاله، دون دونية لأحدهما ولا تراتبية في التقييم، يعتقد الفارابي أن هناك تناسباً بين صناعة المنطق وصناعة النحو ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، فكل ما يعطينا إياه علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات، ينطبق هذا على أوزان الشعر المرتبطة بقوانين علم العروض الخاصة باللسان العربي مقارنة بقوانين علم المنطق العقلية. يبرز الاتفاق إذاً في جهد معرفي لاستخلاص القوانين رغم تمايز يتضح في أن المنطق فيما يعطي من قوانين الألفاظ إنما يعطي قوانين تشترك فيها ألفاظ الأمم، وتأخذها من حيث هي مشتركة ولا ينظر في شيء مما يخص ألفاظ أمة ما ،بل يقضي أن يؤخذ ما يحتاج إليه عن ذلك أهل العلم بذلك اللسان. يستشف من ذلك وجود ما هو مشترك بين الأمم كالاسم والفعل والحرف، بينما هناك قواعد يختص بها لسان أمة محددة كقولنا إن الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب والمضاف لا يدخل به ألف ولام التعريف، فالدراية بعلم النحو لا تقضى بعدم الحاجة لقوانين المنطق الموجهة لمسار التفكير العقلي، وبالمقابل فالتمكن من القواعد المنطقية لا تغنينا عن علم النحو الذي هو عيار اللسان، كما أن المنطق عيار العقل. بهذا التوجه المتجاوز للصدام البياني البرهاني، ينخرط الفارابي سواء عبر مؤلفه إحصاء العلوم الذي سبق فيه علم اللسان وتلاه بعلم المنطق ترتيباً أو عبر مؤلفه الثاني التنبيه على سبيل السعادة إلى تأكيد الحاجة لقواعد اللغة العربية بقدر الحاجة للاطلاع على المتون المنطقية، ساعياً إلى عقد مصالحة بين النُحاة والمَناِطقة التي وسعت المناظرات من حدتها وباعدت بين العلمين، فكانت مقاربة الفارابي مناصرة للاشتغال باللغة بقدر الإقبال على علم المنطق فقربت حقاً بين العلوم الأصيلة والأخرى الدخيلة. * ممثلة إدارة المعرفة في أكاديمية فنسفة صورة تخيّلية للفارابي