في الشارع تتقاطع الحكايات وتنثر الأحلام همساتها على كل شاردة وواردة ويمشي الإنسان مع الكلمة وحروفها الصامتة والمتأملة إلى لحظة السكون العابر. وعلى رصيف الأيام تتوقف الأشياء في هدوئها البعيد منكبة كأنها سوادٌ متوشح. وعلى أهداب الحياة تأتيك رسالة الزمن تخبرك عن ماضٍ بعيد تستذكرك بما فات عليك ومن ثم تطرح على نفسك أسئلة عديدة أكثرها لا وجود لها في زمنك «الآني» ومن ضمنها ندمك على سوء تخصصك الجامعي واختيار شريكة الحياة ووظيفة بدأت بها معترك الحياة وأنت تكابد سنين عمرك.. وإلخ، من مناقشات وجدليات تصبح كأنك في بالونٍ هوائي أو أشبه بمرجلٍ مشحون. فجل هذه الأسئلة هي عقيمة لا طائل منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). إنك في هذا الطرح تعيد المواجع وتقلب الأمور على عقب ولن تأتي بنتيجة، لقد أسأت لنفسك وكدرت عيشتك. فالنفس دومًا تحتاج إلى سعة ورحابة كي تفسح أمورها وتنصت لفلسفة الزمان. فحياتك كتابٌ كتبها لك القدر ولا رجعة لشيءٍ يُمحى، وإنما سر وكن أنت في لحظة وجودك، واجعل قادم الأيام سعيدة بقصصها وآمالها وحكاياتها، وانظر إلى ما هو أجمل كي تصحح الاعوجاج وتخلق لعالمك هندسة دقيقة وزمنٍ مستقيم كي يتوافق فكرك مع قدرك المكتوب. ولكون الإنسان كثير الأسئلة فهو يسأل سؤالاً جوابه لم يُخلق بعد، كحالة أنطولوجية تصويرية خيالية بلا ماهية، فهو يغرق في ميتافيزيقاه الخاصة التي صنعها بنفسه خالية من المعنى أي بدون أدوات كونية، وفي أحايين كثيرة نجده يبحث عن جواب الطالع من قارئ الفنجان أو من كاهنٍ يحسبه نبيًا عنده علم «الغيب» وهذه كلها إرشادات وإشارات وهمية قد تصيب بعضها ولكنها مصادفة! فهذه الأمور الغيبية لا يعرف موازينها إلا خالق الكون وصانعه، لقد فجر الكون ويعرف مداره وحدوده وفي أي لحظة زمنية يقف، فالأجرام والأفلاك لها طرقها وخط زمني لا اعوجاج فيه؛ يسير في مدارٍ واحد، منذ بدء اللحظة إلى ختامها أي انتهاء هذا الكون إلى لحظة النهاية ومن ثم تسير الدائرة من لحظة نهايتها حيثُ تبدأ من جديد... وهكذا دواليك، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). هذه الأشياء جميعها تتعلق بسؤال الخير والشر، منطلقة من كينونة ذاتية عميقة قلقة نحو المعرفة ونحو الزمن الخارجي المرتبط «بالآنية الشعورية»، بل نستطيع أن نقول ونسميه «البحث عن المصير» ومن ثم يستطلع سؤال آخر؛ هل الإنسان يسلب ذاته بنفسه أي وجودها؟ عندما يستحضر الماضي سواء القبيح منهُ أو الجميل، القبيح لو لم يكن، والجميل لو استمر. جل هذه المعطيات أرهقت كاهله وسلبت حاضره مما جعلت الآتي مظلمًا بلا رؤية ولا منطق عقلي يستشف من الظاهر، لأن الظاهر أضحى معدومًا بسبب كثرة الأسئلة غير المنطوقة، فهو كالذي بيده معول يهدم كل شيءٍ أمامه.