تعدُّ مشكلة الزمن واحدة من المفاصل الكبرى الفاعلة في الوعي الإنساني، ويمكن من خلال تتبّع تطورها، وتبيان مواقف البشر منها، قراءة تطوّر الوعي الإنساني نفسه، فهي أشبه بمعيارٍ لضبط ذلك الوعي وتفهُّمه ومحاورته. والعرب تأملوا الزمن، وتوقفوا عند فعله، وحاولوا قياسه والتوثق منه. وقد خلَّف الزمن آثاراً لا تمّحى في نفسية الإنسان العربي وفي وعيه. ولو نظرنا ابتداءً في اللغة العربية التي وصلت حدوداً عليا من النضج والاكتمال عند عرب ما قبل الإسلام فسنجدها ? كما يقول الراحل نصرت عبدالرحمن -"غنية جداً بالعنصر الزماني، فلكل ساعة من ساعات النهار أو الليل لفظ يدل عليه، وفيها ماض بعيد وقريب، وحاضر، وحاضر مستمر، ومستقبل قريب وبعيد وبعيد جداً... يبلغ الأمد. وربطت اللغة بين الزمن والعمل كأصبحَ وغدا وأمسى وأدلج وسرى...، وهذا يدل على أننا نحسّ بالزمن إحساساً باطنياً لا خارجياً". وورد في معجم لسان العرب:"الزمن والزمان: اسم لقليل الوقت وكثيره، والجمع: أزمن وأزمان وأزمنة. وزمن زامن: شديد. وأزمن الشيء: طال عليه الزمان... وأزمن بالمكان: أقام به زماناً. ويكون الزمان شهرين إلى ستّة أشهر. والدهر لا ينقطع. قال أبو منصور: الدهر عند العرب يقع على وقت الزمان من الأزمنة، وعلى مدّة الدّنيا كلّها... والزَّمِن: ذو الزّمانة، والزّمانة: آفة في الحيوانات، ورجل زمِن: أي مبتلى بين الزّمانة. والزمانة: العاهة... والزمانة أيضاً الحب". ونلاحظ هنا ربطهم بين الزمن والمرض أو ما يبتلى به المرء من آفات، وما زلنا حتى اليوم نستخدم عبارة: مرض مزمن، وكأنهم رأوا في فعل الزمن ما يضِرّ بالإنسان، فجعلوا للمرض وللزمن اسماً واحداً، بجامع الضرر والابتلاء فيهما. وعند العرب التفاتٌ إلى زمن غائِب غائِر في الماضي البعيد، يسميه بعضهم: زمن الفِطَحْل وهو كما يرى محمد عجينة مماثل"للزمن الأول في أساطير الخلق وفي أساطير صورة الكون وأساطير البطولة والمؤسسات الإنسانية، زمن طفولة الإنسانية السعيدة، لأنه زمن الإنسانية الكاملة، زمن الأصول والكمال الجسماني وطول العمر...". ومما ورد عنه أنه"دهر لم يخلق الناس فيه بعد، وزمن الفطحل: زمن نوح النبي". وقال بعضهم:"زمن الفِطَحْل إذ السِّلامُ رطابُ. يقال أتيتك عام الفِطَحْل والهِدْملة، يعني زمن الخصب والريف... والفِطَحْل: السيل...". فزمن الفطحل عند العرب زمن الخصب في الماضي، زمن الخلق الأول، والعمر الذي لا يلحقه الموت، إنه زمن نوح، أي زمن التجدد والحياة الجديدة مع الطوفان الذي غمر الأرض، فتجددت من بعده، كأنه زمن دوري للخلق والخصب. وهو مرتبط بالماء، من خلال احتفاظ اللفظة بِمعنى السيل. زمن الفطحل زمن أسطوري، يبدو غامضاً بعيداً من التحديد التاريخي، فهو من الزمن المطلق الذي يتأبّى على التحديد والضبط، وهو زمن الماضي الموغل في القِدَم. ويرتبط هذا الزمن بدلالة الخصب، فكأنه زمن السعادة المفتقدة، المرتبطة بالماضي، وعبر الذاكرة يتم استعادة المفقود، ومحاولة تحقيقه ولو على نحو حلمي، يذكر بعهدٍ كان فيه الإنسان بل الكون كلّه ينعم بالخصوبة والبهجة. كما يبدو الكون أو العالم مختلفاً في الزمن الأسطوري، فكأنه في طور التشكّل أو الخلق الأول، أو تجديد الخلق والحياة، ويبدو العالم في وحدة كونية بين الصخور والحيوانات والبشر، فكل شيء ينطق، الديك والغراب، والصخور رطبة، والماء يغطي كل شيء... وكأنّ صورة الماء، هي صورة المفقود في الصحراء، مما كان موجوداً في زمن قديم. ويمكننا أن نربط هذا الزمن السعيد، بالزمن الماضي، الذي يبكيه الشاعر العربي في البُرهة الطلليّة، فالماضي في الطلل هو زمن الخصب، وزمن السعادة واجتماع الأحبة. أما الحاضر فهو الزمن المتَّجه إلى الاضمحلال والخراب والموت. ففي البرهة الطللية يكون البكاء على المرأة التي يرحل الخصب من الأرض برحيلها، وإذا ما حلّت بأرض فهي تحييها، كما في قول الشاعر المرقّش الأكبر: قل لأسماء أنجزي الميعادا/ وانظري أن تزوّدي منكِ زادا أينما كنتِ أو حللت بأرضٍ/ أو بلادٍ أحييتِ تلك البلادا ولعلّ هذا من بقايا صورة المرأة المؤلَّهة المرتبطة بالخصب، وبالزمن الأول الذي مضى ولن يعود إلاّ عبر التذكر، ولكن لا شفاء"للنفس المعذبة التي تشكو من الزمن، من السأم"، بتعبير باشلار الذي يجعل هذا الشفاء مرتبطاً بالوصول إلى"حياة موزونة، إيقاعية، وبفكر إيقاعي، وبانتباه وراحة إيقاعيين، ويقتضي أولاً تحرير النفس من الديمومات الزائِفة، من الأوقات السيئة". لكن حقبة ما قبل الإسلام ليست من تلك المراحل التي يمكن الوصول فيها إلى حياة موزونة وهي ? وفق قراءة فالتر براونة من تلك المراحل الحادة التي شهدت تعاظم القلق أو ما سمّاه"اختبار القضاء والفناء والتناهي". وربّما يصح الاستنتاج المتعلق بموسيقى الشعر العربي من ناحية الإيقاع المنظم على نحو دقيق وشامل، فهذا التنظيم الإيقاعي كأنما هو بديل الحياة الموزونة، أو محاولة لتنظيم الحياة من خلال تنظيم إيقاع القصيدة، وهكذا يجمع النص الشعري القديم الذي يبنى على الموقف الطللي المدجج بالقلق والحزن والاضطراب، والخوف من الزمن بين التنظيم والفوضى، عبر تبادلات زمنية دقيقة في الدلالات والإيقاعات بغية توفير حدٍ معقول من الإيقاع المنظم للقصيدة ? الحياة البديلة. أما الدهر فيمثِّل قوةً تدميرية مفزعة، في أكثر المواضع التي يرد فيها في شعر ما قبل الإسلام، وآثار العرب في تلك الحقبة. وقد أورد صاحب"لسان العرب":"أن العرب كان شأنها أن تذمَّ الدهر وتسبَّه عند الحوادث والنوازل تنزل بهم من موت أو هَرَم فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعل ذلك فيذمونه...". ويبدو الموقف من الدهر مرتبطاً بملاحظة الإنسان ما يحل عليه من تغيرات سواءً في نفسه من ضعف أو مرض أو كهولة، أم في سواه، خصوصاً موت الآخرين من القريبين منه، إذ يفجعه الدهر بِهِم، فيرى فعل هذه القوة التي لا يستطيع لها رداً. وقد حضر ذكر الدهر بهذه الصورة، صورة القوة المدمِّرة، في كثير من قصائِد الرثاء، التي يتكرر فيها ذكر الدهر والشكوى من الزمن الإنساني القصير، فالشاعر لا يبكي موت أحبائه وحدهم، وإنما موته الذي سيتبع موتهم، تماماً كما هو حال جلجامش في الملحمة السومرية الشهيرة، عندما اكتشف قسوة الموت، وقوّة الزمن في موت خلّه وصديقه أنكيدو، فمضى يبحث عن سرّ الخلود، مما يمكن له أن يجدد الشباب ويحفظ الحياة من الزوال. أما المستقبل فيبدو زمناً غامضاً محيّراً في الوعي العربي قبل الإسلام، ولعل هذا الغموض يستند في جانب واسعٍ منه إلى غموض المصير في الديانة الوثنية، أو في التصورات الميثولوجية للعرب آنذاك، لأن فكرة البعث والحياة الأخرى لم تكن فكرة مطروقة أو معروفة، وإن وجدت لها إرهاصات محدودة، لم يتَّسع الاعتقاد بها، أو الإيمان بإمكانيّتها، ويؤكد ذلك قول زهير بن أبي سلمى: "وأعلم علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه/ ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمي". وهذا كله ينتهي إلى غاية واحدة، هي غموض المستقبل، والمصير، في الوعي العربي قبل الإسلام، ولعلّ من أبرز الأفكار الجوهرية التي جاء بها الدين الجديد أنه ابتدأ بتقديم حلّ ٍ مطمئن لهذه المشكلة، فجاءت فكرة الحياة الأخرى الخالدة بديلاً للحياة البشرية الموقتة، ربّما ليتجاوز العرب شيئاً من إحساسهم الوجودي بالزمن، ووقوفهم الحاد أمام حلقاته. أما مواجهة الدهر/ الموت، فقد اتَّخذت صوراً متعددة، لكن غايتها واحدة، فهناك طائِفة ظل الخلود يساورها، مثلما هو حال جلجامش الشهير، ويمكن أن نقرأ الرحلة في القصيدة العربية القديمة بوصفها رحلة موازية لرحلة الشمس أو القمر في السماء، والقصص التي يسردها الشاعر متَّصلة بما تعبره الشمس من منازل وبروج ومجموعات كوكبية، وكأن الشاعر بنزوله فيها رمزياً، واهتدائِه بها يلتمس أن يلتقي بالشمس/ الأم والحبيبة، مانحة الخصب ومالكة الحياة، ووفق ذلك تكون غاية الرحلة السعي من أجل نيل الخلود، فرحلة الشاعر العربي هي رحلة الفرار من الموت، والبحث عن معنى الحياة، شأنها في ذلك شأن ملحمة جلجامش، الملحمة السومرية التي يمكن أن تفسر لنا كثيراً من غوامض أدب الشرق القديم. وهناك سبيل آخر للخلود، يتمثل في توهم الخلود، عبر الذكر الحسن أو السيرة المحمودة، سواءٌ من خلال الكرم المبالغ فيه حدّ التهور كما في مثال حاتم الطائي، وأجواد العرب، أو مواجهة الموت بصناعة الموت للآخرين عبر حياة الفروسية والحرب، وهناك ظاهرة الصعلكة التي يمكن تفسير بعض جوانبها بالرغبة في تحقيق الذكر، فضلاً عن أبعادها الاجتماعية. وهناك سبيل طرفة بن العبد الذي واجه الموت والفناء، بالاستغراق في الحياة، أي أن"يموت في حبّها"كما تقول الاستعارة السائِرة وهذا ما يتبدّى في ربطه الشائِق بين انتفاء الخلود وفلسفة اللذة أو السعادة، فاللذة الموقتة أو الطارئة أفضل من مصادرة الحياة باسم الموت، أو تحت تأثير الخوف الدائِم منه. ويعبر طرفة بن العبد عن ذلك بقوله: ألا أيّهذا اللائمي أن أشهد الوغى/ وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تسطيع دفع منيّتي/ فدعني أبادرها بِما ملكت يدي هكذا يواجه الموت، من خلال فلسفة اللذة، التي يبدو كما لو كان يبادر أو يبادئ بها المنية، لتغفل عنه قليلاً وهو يعلم أن حبل المنية سيشده لأنه قد ربط به: لعَمرك إن الموت ما أخطأ الفتى/ لكالطول المرخى وثنياهُ باليدِ وهو يرى العمر، ينقص ولا يزيد، في قراءة متبصّرة لمعنى الأيام، وكنْز العيش الذي ينقص ولا يزيد كما يتوهَّم المرء: أرى العيش كنْزاً ناقِصاً كل ليلةٍ/ وما تنقُصُ الأيام والدهرُ ينفدِ - وهناك سبيل آخر، يتمثَّل في تعبير وجودي ممزَّق، يميل فيه الشاعر/ الإنسان إلى الأمنية المستحيلة، والرغبة في الامّحاء، ومن الصور الدالّة على هذا التعبير صورة الحجر أو"الصمّ الخوالد"كما سمّاها لبيد بن ربيعة: فوقفت أسألها وكيف سؤالنا/ صمّاً خوالدَ ما يبين جوابها فالحجارة مثلت شيئاً خالداً، أكثر ثباتاً من الإنسان نفسه، فإذا كان المكان قد تغير وصار في هيئة"طلل"، فإن الصمّ الخوالد باقية، وستبقى أيضاً بعد رحيل الشاعر نفسه. ومن هنا يمكن أن نتفهم رغبة تميم بن أبي مقبل في البيت السائر: ما أطيب العيش لو أنَّ الفتى حجرٌ/ تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ فلو أنّ الفتى حجرٌ، ما فني ولا أثر فيه الزمن، ولمرّت الحوادث والنوازلُ، وبمكنته أو بمقدوره أن يجابه المصير وفعل الدهر، وهكذا تصبح الصورة الحجرية مطلباً وجودياً بغية البقاء المنشود أو المرغوب فيه. وثمّة أمنية مشابهة للنمر بن تولب لا تغادر هذه الصورة، صورة الحجر الخالد الذي لا يتأثر بفعل الزمن ودورانه: ألا يا ليتني حجرٌ بوادٍ/ أقامَ، وليتَ أمي لم تلدني إن الإحساس العميق بالقلق الوجودي، هو ما يدفع شاعراً كالنمر بن تولب أن يصرخ، ويجهر برغبته في الامّحاء. فمثل هذه الرغبة الجارحة لا تكون إلاَّ بعد سفرٍ طويلٍ شاقّ في ضروب التأمل، ومحاولة مساءلة الصيرورة، وإدراك غوامض الوجود، وعندما يحس بالعجز إزاء ذلك، يصرخ معلناً رغبته في أن يمحو كينونته، ويعود إلى ما قبلها، لكي لا يواجه أسئلة الوجود وغوامضه. * أستاذ الأدب العربي بجامعة فيلادلفيا الأردنية