قصص نجاحنا مادة خام لعلم الاجتماع الطبي رحلتنا العلاجية دروس في قوة التغيير في عالم التحول من الطب بالتدخل اليدوي إلى نقل الأعضاء وزراعتها عبر الروبوت، تتقاطع حياة الإنسان مع التقنية والقيم وثقافة المجتمع، وتبرز مسألة زراعة الكبد في السعودية كواحدة من أعظم الإنجازات الطبية الوطنية، ومساهمة سعودية بمعايير عالمية من أجل صحة الإنسان. ويدخل علم الاجتماع الطبي لفحص الجوانب الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بملف زراعة الأعضاء والموقف الديني منها ورؤية المجتمع للمريض، ويناقش مسألة عدالة نقل الأعضاء وزراعتها وأخلاقياتها. وزراعة الكبد من الموضوعات التي يكون للطب منها 30 %، بينما تصرف 70 % من الجهود في التحديات المالية والإدارية والتنافس والصراع على الأسبقية والريادة. وبحكم معرفتي الشخصية بعدد من جراحي زراعة الكبد، من جيل الرواد المؤسسين لهذا البرنامج، ولرغبتي الشديدة في الدعوة لتوثيق هذه المرحلة قبل أن تندثر، فقد استثمرت علاقتي بهم وطلبت منهم توثيق بعض مذكراتهم عن نشأة البرنامج. فالكتابة عن قصة زراعة الكبد في السعودية يعد جزءًا من توثيق تاريخنا الاجتماعي والثقافي والطبي، لعلاقته الوثيقة بجودة الحياة وسيادة قيم العطاء والإيثار والتعاون بنشر فكرة التبرع بالأعضاء، ومساهمة سعودية فاعلة في تقدم تاريخ الإنسانية. زراعة الكبد في العالم بدأت عمليات نقل الأعضاء من جسم إلى جسم آخر منذ القرن التاسع عشر، وكانت تجرى على الحيوان، ثم نجحت زراعة قرنية على إنسان، ولكن كان عام 1954 حاسمًا بعدما نجح جوزيف موراي في زراعة كلية بعد محاولات طويلة، مما فتح المجال واسعًا لزراعة القلب والرئتين والكبد بين البشر. ولكن بدأت قصة زراعة الكبد الفعلية عام 1967 عندما قام د. توماس ستارزل بأول عملية زراعة كبد ناجحة، وخلال الفترة ما بين عامي 1967- 1984 أُجريت عمليات زراعة كبد على نطاق محدود في أميركا وأوروبا. كانت مدينة بتسبرج في ولاية بنسلفانيا هي الانطلاقة لعمليات زراعة الكبد تحت قيادة رائد زراعة الكبد في العالم ستارزل، وقد أصبح مركز زراعة الكبد في تلك المدينة مركزاً لجذب الجراحين من مختلف أنحاء العالم لتعلم تقنيات زراعة الكبد، ومن ثم نقلها إلى بلدانهم، وصاروا روادًا يقودون مراكز الزراعة في أميركا وخارجها. زراعة الكبد في السعودية بدأ الاهتمام بزراعة الكبد في المملكة العربية السعودية في منتصف الثمانينات، فقد كان مرضى التليف الكبدي النهائي يموتون بسببه، وقد كانت أمراض الكبد في المملكة من الأمراض الشائعة، وأهم أسبابها التهاب الكبد الوبائي، ولعل هذا هو الملهم الأهم لقصة زراعة الكبد في المملكة. في حديثي د. محمد السبيل أشار إلى أن 5-10 % من سكان المملكة يعانون من أمراض الكبد لسبب أو لآخر وبدرجات مختلفة تتدرج من حمل المرض وحتى الفشل العضوي النهائي والذي ينتهي بالوفاة، وفي كثير من الأحيان لا يعلم المريض مدى خطورة إصابته. إن أمراض الكبد تشكل تحديًا طبيًا على مستوى العالم، ويدرك هذا من يتابع الطفرة الكمية والنوعية في مجال البحث العلمي وما ينتج عنه وبالذات ما يتعلق بأمراض وجراحة الكبد، ولقد استطاع الجهد العلمي أن يحدد ويفصل العديد من أنواع الفيروسات المسببة لأمراض الكبد الوبائية، ومنها الفيروسات A, B, C, D, E, G. أما بالنسبة للعلاج الطبي من الإصابة بالفيروس C، فهناك ثورة طبية حقيقية في السنوات الأخيرة؛ حيث يمكن الشفاء منه في معظم الحالات بعد أن كان أحد مسببات تليف الكبد المؤدية للوفاة. وكان التنافس في تلك الحقبة محموماً بين ثلاثة مستشفيات هي: مستشفى الملك فهد الطبي بالحرس الوطني (مدينة الملك عبدالعزيز الطبية حالياً)، ومستشفى الملك فيصل التخصصي، ومستشفى القوات المسلحة ويعرف شعبيًا بالمستشفى العسكري (مدينة الأمير سلطان الطبية). وأول زراعة كبد في السعودية كانت في المستشفى العسكري عام 1989 على يد الجراح موفق جودت، وهو سعودي من أصل عراقي، وقد أجريت ست عمليات ناجحة، ثم توقف المشروع. وقد توجه المستشفى العسكري بعد ذلك إلى ألمانيا، لوجود جراح مشهور اسمه د. بروليتش، من مركز هامبورج، وقام مع فريق من المستشفى العسكري بإجراء عملية عام 1991، وعاد البرنامج مرة أخرى عام 1997 بالتعاون مع جامعة هامبورج. أما المستشفى التخصصي فقد برز فيه فريق أميركي، وأجرى عمليات ناجحة، ثم استقطب الجراح الألماني برورنق؛ حيث أجرى عمليات زراعة كبد بوصفه جراحًا زائرًا، ثم توقف وأعيد استقطابه فيما بعد لبرنامج زراعة الأعضاء. أما مستشفى الحرس الوطني فقد كان حديث التأسيس ولكنه ذو إمكانات جيدة، وكان تحت إشراف الخدمات الطبية في الحرس الوطني، وكان يرأسها الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله التويجري (توفي 2011م)، وهو ابن أخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، وقد سبق أن رافق عمه في رحلته العلاجية لزراعة الكبد، فكان لديه تصور كامل لما تعنيه زراعة الأعضاء وأهمية إنشاء البرامج لزراعتها سواء الكبد أو الكلى أو غيرهما. وجاء الإلهام في قصة زراعة الكبد في المملكة من زيارة توماس ستارزل إلى المملكة عام 1989 بدعوة من مستشفى الحرس الوطني، حيث أثارت تلك الزيارة اهتمام المجتمع الطبي. ويمثل عام 1994 الانطلاقة الحقيقية لبرنامج زراعة الكبد في مستشفى الحرس الوطني بأيدٍ سعودية، وهي العملية التي أجراها الجراح السعودي محمد السبيل، وحولها إلى مشروع وطني. وتمت العملية الأولى في شهر يناير 1994 (رمضان 1414ه). ولقيت صدى إعلامياً وشعبياً كبيرين. واستمر البرنامج حتى منتصف 1998، حيث تم زراعة مئة كبد في هذه المدة. وللعناية بزراعة الأعضاء في السعودية أنشأت الدولة في وقت مبكر المركز الوطني للكلى عام 1404ه/ 1984 الذي كان من ضمن اهتماماته تنظيم زراعة الكلى، ثم تحول إلى المركز السعودي لزراعة الأعضاء عام 1413ه/ 1993، وينشر الموقع بعض القصص الفردية لمتبرعين بجزء من الكبد لأشخاص لا يعرفونهم أو متلقيها من أحياء ومتوفين، وإحصاءات سنوية عن زراعة الأعضاء وأعداد المتبرعين بعد الوفاة الذين تجاوز عددهم 500 ألف مواطن ومواطنة. أثرت قصص نجاح زراعة الأعضاء في السعودية على الروح الشعبية في المجتمع، بعدما شاهدوا الأمل يبعث من جديد لمن عاشوا معاناة المرض، وفرحة المتبرعين بإنقاذهم أشخاصاً لا يعرفونهم، وحفزت الكثيرين للتبرع بالأعضاء، سواء بعد الوفاة، أو بجزء من الكبد أو إحدى الكليتين للأحياء. واستطاعت مستشفيات المملكة الكبرى أن تجري عمليات زراعة كبد متكاملة بكوادر طبية سعودية، وقد انتهى دور جيل الرواد وبرز الجيل الثاني، وبدأت تبرز طلائع الجيل الثالث من هذا البرنامج بزراعة الكبد باستخدام الروبوت. ويعتبر مستشفى الملك فيصل التخصصي الآن من المستشفيات الرائدة على مستوى العالم في زراعة الأعضاء. الموقف الديني من زراعة الأعضاء أجريت زراعة الكبد في أوج صعود المؤسسة الدينية وهيمنتها على الفضاء العام، وكان لديها رأي وتأثير في جميع مجالات الحياة بما فيها المؤسسة الطبية، وتشكل زراعة الكبد واحدة من أهم القضايا التي يتوقع ظهور رأي ديني بشأنها بوضوح. وللمؤسسات الدينية المعنية بالنوازل الفقهية مثل مجمع الفقه الإسلامي تجارب في فتاوى زراعة الأعضاء منذ عام 1398ه/ 1978؛ حيث أفتى في زراعة قرنية العين، ووجد خلاف كبير بين الفقهاء، ولكن كانت مسألة زراعة الكبد من أكثرها تقبلًا بسبب قدرة الكبد على النمو بعد اقتطاع جزء من كبد المتبرع. وبرزت فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز بالتوقف في جواز التبرع بالأعضاء، مع إبداء عدم تفضيله إذا سئل بشكل شخصي، بينما يصرح الشيخ ابن عثيمين بعدم الجواز، بحجة أن جسد المسلم مؤتمن عليه وليس من حقه التصرف فيه، ولكن الفتوى الرسمية الصادرة من هيئة كبار العلماء كانت تجيز التبرع بالأعضاء بشروط شرعية. ولم تكن فتاوى التبرع بالأعضاء ذات تأثير على المؤسسة الطبية ولا على الموقف الشعبي منها. التحديات الأخلاقية والفلسفية في عام 1968، قدم تقرير من كلية الطب بجامعة هارفارد محاولة جريئة لإعادة تعريف الموت باعتبار الغيبوبة شكلا من أشكال الموت، والغرض الأساسي من تعريف الغيبوبة غير القابلة للعكس كمعيار جديد للوفاة؛ لأن المعايير التقليدية لتعريف الموت يمكن أن تؤدي إلى الجدل في الحصول على الأعضاء لزراعتها، فنقل بعض الأعضاء وقت غيبوبة الوفاة يرفع نسبة نجاح الزراعة. وقد أثار هذا التعريف الجديد للموت الجدل حول تأثير الموت الدماغي على زراعة الأعضاء، وحول السماح بنزع الأجهزة عند تحقق الوفاة الدماغية وقبل توقف القلب. ولأن زراعة الكبد في جسد مريض تعني بالضرورة إعادة الحياة لشخص منتهية حياته وتأجيل موته، فقد أعاد هذا الحدث فتح أسئلة فلسفية معقدة عن مواجهة الموت ومعنى الحياة بعد الموت. ويحظى موضوع فلسفة الأخلاق الطبية باهتمام كبير، ويناقش أحقية المرضى بحسب العمر، ولماذا يتم تفضيل زراعة كبد لشاب أكثر ممن تجاوز عمر السبعين، وهل دور الطبيب هو زراعة الكبد والأعضاء أم تحقيق العدالة أم رفاهية المريض؟ وبدأت تظهر الأسئلة الأخلاقية بكثافة بعد نجاح زراعة الكلى في التاريخ (ديسمبر 1954) ثم توالت زراعة القلب والكبد. ويناقش كتاب "التحديات الأخلاقية لزراعة الأعضاء" (2021) تحرير سولفيج هانس وسلك شيكانتز، قضايا إطالة الحياة وتأثير زراعة الأعضاء على كرامة الإنسان، وتحديات زراعة الأعضاء حول أخلاقيات التبرع بالأعضاء من الموتى ومن الأحياء، وعدالة التوزيع وبيع الأعضاء، وتشكيل هوية المرضى أثناء عملية زراعة عضو صحي وإزالة عضو تبين فشله في أداء وظائفه، مع التأكيد على إنسانية زراعة الأعضاء. والنقاش الفلسفي حول أخلاقيات التبرع بالأعضاء في السعودية ما يزال ضئيلًا أمام ما كتب حول أخلاقيات الطبيب المسلم، رغم أن الموضوع جدير بتكثيف النقاش حوله، مع تزايد إحصاءات المرضى المحتاجين لزراعة الأعضاء، وكثرة تنقلهم لبلدان فقيرة للحصول على فرص الشفاء. وتنشأ الآمال مع مستقبل تقنيات زراعة الأعضاء بالذكاء الاصطناعي من خلال تسريع الإجراءات ورفع كفاءة العمليات، ويصاحبها مخاوف من زيادة كلفة العمليات مما قد يتيح فرص العلاج لمن يملك المال، أو يضطر الفقراء لبيع الأعضاء، مما يتطلب معه زيادة التشريعات التفصيلية، والتوعية المجتمعية المبكرة، والمزيد من النقاش الفلسفي والأخلاقي. ختام قصة زراعة الكبد في السعودية منجم من التراث الطبي غير المادي والمسكوت عنه، وقصة نجاح إنسانية، ودروس قاسية للصراع الطبي والمالي والإداري على الأسبقية ومواجهة تحديات وتجاوز عقبات لا ينبغي أن تكون في الطريق من أساسها. إنها دليل على أن مشافينا سخية بقضايا وقصص نجاح تعتبر مادة خاماً لعلم الاجتماع الطبي، واستثمارات حية في الإنسانية ودروسًا عميقة في قوة التغيير. وهي دعوة لتوثيق هذه الرحلة الطويلة وجمع التراث الطبي ونشره ومقابلة الكوادر الطبية والإدارية والمالية والمرضى والمتبرعين وذويهم، وحفظ هذه المرحلة بمبادرة وطنية قبل أن تندثر. زراعة الكبد بأيدٍ سعودية قصص نجاح ومبعث فخر سعودي