تتجلى عظمة اللغة العربية ورفعتها وعلو مقامها وسمو مكانتها أنها في المقام الأول اللغة الوحيدة التي اصطفاها واجتباها وخصها وشرفها رب العزة والجلال لأن تكون لغة كتابه المجيد والذي يتبدَّى في آيات كريمة وردت في عدد من السور، منها قوله تبارك وتعالى: "وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا" طه: 113، وقوله عز وجل: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" يوسف: 2)، وقوله جل وعلا: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" 193-195، وقوله أصدق القائلين: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" فصلت: 3. واللغة العربية من أقدم اللغات السامية، وهي من أكثر لغات العالم توسعًا وامتدادًا وانتشارًا، إذ يتحدثها أكثر من نصف مليار نسمة في كل بقاع العالم، الأغلب منهم يتركزون في منطقة الوطن العربي وما حوله، واللغة العربية مهمة بل ضرورية جدًّا للمسلمين في كل بقاع الأرض إذ هي لغة القرآن الكريم، ولا تتم الصلاة في الإسلام إلا بإتقان تلاوة سورها وفهم أدعيتها، وهي أيضاً لغة شعائرية رئيسية مستخدمة لدى عدد من الكنائس المسيحية والمسيحيين في الوطن العربي وفي كتابهم المقدس (الإنجيل)، كما كُتب بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى، كمؤلفات دوناش بن لبرط وموسى بن ميمون ويهوذا اللاوي وإسحاق الفاسي التي كان لها أثر بالغ في اللغة والدين والأدب اليهودي. كما تتميز اللغة العربية بقدرتها على احتواء الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة معينة، ففيها خاصية الترادف، والأضداد، والنحت والتصريف والاشتقاق والمشتركات اللفظية واللغوية، وتتميز كذلك بالمحسنات اللفظية البديعية كالمجاز والطباق والكناية والجناس والاحتباك والتناز والتناظر والتورية والمقابلة والسجع والتشبيه إلى جانب فنون اللفظ كالنحو والبلاغة والفصاحة. لغتنا العربية لغة الضاد ليست مجرد وسيلة للنطق، ولكنها الهوية والأصالة والحضور التي تضعنا في صدارة التفوق وقوائم المجد، لغتنا هي اللسان الفصيح الذي يختلج بالأفكار ويصدح بالرؤى ويلهج بالعلوم والآداب، وهي الأداة الأمينة التي تنقل المثل والقيم والمبادئ والمعاني، وهي الكتاب الذي يضم بين تضاعيفه وينشر بين دفته ثقافاتنا وعاداتنا وتطلعاتنا وطموحاتنا، إنها سر وجودنا وإلهامنا والقاعدة الصلبة لوحدتنا وانصهارنا واندماجنا. لغتنا (لغة الضاد) هي محبرة الأصالة وكاتبة المجد وصانعة السيادة والسؤدد والبقاء، لذا يجب أن نكرمها ونشيد بها وذلك التكريم وتلك الإشادة إنما مردههما إلى ارتباط الضاد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث له عليه الصلاة والسلام: "أنا أفصح من نطق بالضاد". نعم، لقد كانت اللغة العربية تراثًا تليدًا وينبوعًا ثريًا ورافدًا غنيًا للعلوم الإنسانية وأن دورها كان ولا يزال دور ريادة وعطاء وإضافة وإبداع، وليست خاصة بتراثها العربي فحسب وهو ذروة عطائها ولكن بما تمثله من عناصر الحضارات الأخرى حيث ظلت سيدة لغات العالم التي تضعها في صدارة التفوق وقوائم المجد تُشعُّ فكرًا وعلمًا واقتصادًا وسياسة وتقدمًا وحضارة وتوحي بالحث على التعلم والتفكر والتيقن والمعرفة والابتكار وتصدح بالرؤى والعلوم والآداب على مدى قرون عديدة إلى جانب ما بلغته من مكانة مرموقة وما تبوأته من منزلة غير مسبوقة في مجالات الرقي والحضارة بتجلياتها ومظاهرها المختلفة بعبق التاريخ وأصالة الماضي الذي تزخر صفحاته وتلمع أسطره وتزدان ملامحه بما تحتفظ به من مخزون حضاري عريق وتراث تاريخي تليد ثابتٍ وباقٍ على مر الزمن. لقد كانت المنبع الصافي لكثير من لغات العالم، وصاحبة الخطوط الأجمل من بين كل اللغات في العالم، وفي المرتبة الأولى من حيث عدد الكلمات والاشتقاقات بعدد يتجاوز إثني عشر مليون كلمة، بينما لا يزيد عدد كلمات اللغة الإنجليزية وهي الأكثر شهرة واستخدامًا في العالم على ستمائة ألف كلمة فقط. ونظرًا لمكانتها التي تتبوؤها اللغة العربية بين سائر لغات العالم فقد خُصص لها يوم في العام وهو الثامن عشر من شهر ديسمبر ليكون الذكرى السنوية لليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة ليكون مناسبة دولية كل عام للاحتفاء بقيمة ورمزية ومكانة اللغة العربية، إضافة إلى تذكير العالم بهذه اللغة التي قدمت للحضارة الإنسانية العديد من الإنجازات والإبداعات وكان لها الدور المشهود بفضل الله في نهضة وتقدم كثير من الأمم والشعوب في العالم. لقد قامت الأممالمتحدة بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقررة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية وأصدرت قرارها رقم 2206 في 18 ديسمبر 1973 مبررة أن الجمعية العامة تدرك ما للغة العربية من دور مهم في نشر وحفظ حضارة الإنسان وتراثه وثقافته وأنها تدرك أيضا أن اللغة العربية هي لغة تسعة عشر من أعضاء الأممالمتحدة وهي لغة عمل مقررة في وكالات متخصصة مثل منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم ومنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولي، وهي كذلك لغة رسمية ولغة عمل في منظمة الوحدة الأفريقية، وإذ تدرك ضرورة تحقيق تعاون دولي أوسع نطاقا وتعزيز الوئام في أعمال الأممالمتحدة وفقًا لما ورد في ميثاق الأممالمتحدة فقد تقرر إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقررة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية الرسمية. وقد لا نبتكر شيئًا جديدًا إذا قلنا أن اللغة العربية هي اللغة الأقدس والأعظم والأكبر والأثرى بين اللغات، وإنها تمثّل لنا كعرب ومسلمين روحًا وهوية وبجدة ومحتدًا وأصالة. ولا خلاف على أن اللغة العربية تعد الأقدر والأطوع لاستمطار المعاني واستنبات الرؤى والأفكار؛ فهي من الثراء المذهل والخَصْب المدهش والشمول الواسع ما يجعلها بحق قادرة على الوفاء بمتطلبات الكتابة والتعبير في أبهى وأجمل صوره؛ كيف لا وهي لغة القرآن المجيد الذي ارتضاه المولى جلت قدرته أن يكون رسالة دينه ومنهاج شرعه للعالم أجمع، فلا غرو إذن أن تكتسب العربية من ألسنة العرب وفصاحتهم وبلاغتهم رقّة اللفظ وجمال المعنى وأناقة التعبير، ومن شاعريتهم روعة البيان وسحر البلاغة وبهاء الصورة المشع من قدْح القريحة واستنباط الفكَر وإلهاب الخيال. من هنا يتأكد لنا أهمية هذه اللغة لما تملكه من نفائس وثروات وكنوز وروائع ودرر، الأمر الذي يوجب علينا العناية بها بعثًا وتجديدًا وبناءً وتشييدًا وتهذيبًا، وتكريسها حضورًا في شتى تعاملاتنا ومناحي حياتنا المختلفة؛ فهي لغة جديرة بالتقديس والاحتفاء وخليقة بالتبجيل والبقاء. من هنا جاء الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الذي لم يكن محرد حدث طارئ أو احتفاءً شكليًا عابرًا بل هو شعور نابع من قناعة راسخة وإيمان مكين بأهميتها كهوية وجدانية ذاتية ومصدر اعتزاز روحي عميق. إذن والحالة هذه علينا أن نسعى -وهذا أحد برامج رؤية المملكة 2030- إلى تعزيز دور اللغة العربية محليًا وإقليميًا وعالميًا ونشرها وحمايتها والمحافظة على سلامتها ودعمها نطقًا وكتابة والنظر في فصاحتها وأصولها وأساليبها وأقيستها ومفرداتها وقواعدها وتيسير تعلمها داخل المملكة وخارجها لتواكب المتغيرات وأن تكون مرجعية عالية في جميع مجالات اللغة العربية وتطبيقاتها عبر نشر الأبحاث والكتب المتخصصة باللغة العربية، واختبارات اللغة العربية ومعاييرها، والذكاء الاصطناعي في اللغة العربية، والمؤتمرات والمعارض، والمدونات والمعاجم، ومراكز تعلم اللغة العربية، والحملات الإعلامية المعززة لقيمة اللغة العربية ودعم إثراء المحتوى العربي، هذا إلى جانب نشر اللغة العربية ومتابعة سلامة استعمالاتها في المجالات المختلفة وإحياء تراثها دراسة وتحقيقاً ونشرًا إضافة إلى توحيد المرجعية العلمية داخليًا فيما يتعلق باللغة العربية وبعلومها والعمل على تحقيق ذلك خارجيًا إلى جانب العناية بتحقيق الدراسات والأبحاث والمراجع اللغوية ونشرها وتشجيع العلماء والباحثين والمتخصصين في اللغة العربية. ونختم مقالنا هذا بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في تمجيد لغة الضاد والرفع من مكانتها وإعلاء شأنها ومقامها: إن الذي ملأ اللغات محاسنًا جعل الجمال وسره في الضاد. * جامعة الملك سعود أ. د. عبدالله محمد الشعلان*